اللوحة: الفنان الأميركي ماكس جينسبورج
اسم فيلم مصري ناجح ويُحبه كثيرٌ من المصريين، ثلاثة شقيقات، كل منهن من أم مختلفة ولكنَّ الأب واحد، عندما يتوفى الأب يترك لهن ثروة كبيرة، فشل الأب في السيطرة على مشاعر الغربة والنفور بين بناته، فكانت محاولته الأخيرة، أنْ كتب في وصيته شرطا حاسما، ألا توزع الوصية إلا بعد اجتماع البنات معا في بيت واحد لفترة زمنية محددة.. أثار هذا الفيلم أفكارا عندي وأشجان.
الفنانة «حنان ترك» فتاة مختلفة عن الممثلات صارخات الجمال والأنوثة، فتاة تعتمد في 99% من أدائها على المهارة والموهبة والروح وليس الجسم والشكل، ونجحت في التسرب إلى قلب الجمهور بعد رحلة طويلة، ثم تدينت واعتزلت، حَزِنت لقرارها الاعتزال وتعجبت، هل عندما تتدين تعتزل!، تضحي برصيدها من تقبل الناس لها وخبرتها فتعتزل!، لماذا لا تستغل هذا التدين في نشر الفضيلة والقِيم والخير والجمال والإصلاح؟.
نفس الشعور وأكثر منه جاءني حين اعتزلت الفنانة «سهير البابلي» التي جاءها النضج متأخرا وأبهرت الجمهور بمسرحياتها الاستثنائية.. «العالمة باشا – عطية الإرهابية – على الرصيف (أعظم المسرحيات في تاريخ مصر)»، اعتزلت بعد أن تدينت!، هذه حيلة خطيرة من الحيل التي وقعنا فيها نتيجة مفاهيم خاطئة عن الدين، فتركنا الساحة وكل الساحات لغير المتدينن وغير الأخلاقيين، ثم بعد ذلك نشتكي من الظلم والمؤامرة ومن تدهور كل شيء، نحتاج أن نعالج أفكارنا الغبية والدرويشية لأنها تجعلنا نهدر أثمن ثمار جهدنا، مثل من يتعب حتى تلمع الثمرة أمام عينيه، ثم يقطفها ويخزنها في مكان رديء فيُسرع بتلفها وخسارتها.
في الفيلم، كان الحل الذي قرره الوالد في لحظة يائسة قبل وفاته عبقريا، أراه يحتاج تفكير عميق، فربما كان فيه حلولا شعبية وليس فقط لهذه الأسرة.
***
لو اخترت عنوانا للعلاقات بين أفراد الشعب المصري، سوف أجعله: «دوائر بلا أسنان»، وإنْ لم تَدل تلك العبارة على معنى واضح، فسوف أشرحها باختصار قائلا: «يَسود بين المصريين مشاعر الاسترخام والتَوجس وسوء الظن، وكأنهم أبناء الضَرَاِئر».. نعم؛ يتعامل المصريون معا كما أبناء الضرائر.
***
في المؤسسات يُوجد تفاعل بين الزملاء في العمل، تحدث عمليات متتالية من الانفعالات بينهم، قد ينقبض أحدهم من الآخر.. يسترخمه.. يظن أنَّه يدبر له مكائد.. يعتقد أنَّه حاقد وخبيث.. يَظنه منافسا له.. أو.. لا يعجبه طريقته في الكلام.. وربما سِحْنته تسبب له عَكننة مزاج.. أو متأنق بزيادة فيثير غيرته.. وخاصة حين يتصنع الظرافة أمام الزميلات ويثير ضحكاتهن رغم أنه ثقيل الدم!.
الأسباب كثيرة فالنفس البشرية «المصرية» عميقة ومُعَقَّدة ومكبوتة بكافة أنواع العقد.
ينتج من هذه التفاعلات الداخلية والخارجية مشاكل وعراك، ولكن لا يخطر ببال أحدهم أن يترك العمل، فترك العمل يعني قطع الرزق وأزمة مالية وأسرية، ولولا هذا القيد، ما عمل أحد في بلادنا مع أحد، ولأصبحنا مثل الرمال في الصحراء.
ولكن؛ خارج العمل والمصلحة يكون المرء حرا على طبيعته، فيخضع لهذه المشاعر المتهورة والسيئة سريعا، والنتيجة أنَّ الأقارب.. الجيران.. الأخوة بعد زواجهم.. الكل، يتباعد في عملية لا تتوقف طوال الحياة، نحن عندنا قدرة «سوبرمانية» على اكتشاف فيروسات الظن في الآخرين، جهاز استشعار الخطر يعمل بكفاءة عالية ويشطح بجنون، ولهذا نحن نتباعد مثلما يتباعد ويتسع الكون في حركة للخارج.. فما الحل؟
***
كتب الأب في وصيته شرط أن يجمع الثلاث أخوات بيت واحد لمدة عام، والميراث كبير ولا يمكن التضحية به، والبنات معزولات شعوريا ومتحفزات نفسيا ويثقل عليهن هذا الشرط، فكل «أم» قامت خلال سنوات طويلة، بسكب سموم حقدها على الزوج، في إناء ابنتها، ولكن الذي حدث أنَّ الوصية تسببت في معجزتين.
الأولى: حب عميق وترابط وتفاهم وصداقة بين الأخوات الثلاثة.
الثاني: شفاء قلب وصدر البنات مع حلحلة العُقد والمشاكل الخاصة بهن.
كل بنت وجدت طريقها وعرفت نفسها، وتحول الجميع من ثلاث تعساء إلى ثلاث سعداء.. وشكرا للشرط الذي أجبر الجميع على تذوق الدواء المر والشافي.
***
البعد البدني والنفسي يزيد المسافات والمشاعر السيئة والظنون، مشكلة المصريين والعرب هي نفس مشكلة بنات «أبو حَجر» في الفيلم، نجهل أنَّ «الفهم والتفاهم والتعاطف والعذر والتغافل والمسامحة.. إلخ».. هم ثمرة القرب، ولكن كيف نجمع المصريين كلهم في منزل واحد لكي ينالوا بركة التعارف المؤدي إلى حسن الظن والتفاهم والحب!
نحن نتعامل مع المشاكل بكبرياء مبالغ فيه، وكأنه مثل «شرف البنت الذي مثل عود الكبريت»، بمجرد أن تحدث أي مشكلة أو سوء تفاهم نتيجة الاحتكاك، يهب المرء واقفا ويغادر ولا يعود، وبينما يولي ظهره يتردد بين شفتي الآخر صرخة وقحة أو جبانة قائلا: «في ستين داهية»
نحن نريد حلا يجبر الناس أو يقنعهم بتحمل ثمن الإصرار على التعامل، فالإصرار يبث من الدفء ما يذيب كل شر بين الناس ويكشف الخير فيهم وبينهم.
***
قال لي صديقي: «سوف أحرص على أن يسكن كل ابن وبنت لي في مدينة مختلفة، فما عانيته من نكد وشجار وفك اشتباك ومشاعر سيئة بين أخوتي وزوجاتهم وأزوجاهم وأهلي، حين جمعتنا عمارة سكنية واحدة وبلدة واحدة، لا يمكن أن أكرره في أولادي، فليتباعدوا حتى يحتفظوا بالحب والسلم بينهم».
نظرت إليه بإشفاق وقلت له: «الحلول التي تنشأ عن رد فعل هي انتقال من طرف إلى طرف، فاحذر التطرف».
***
المسافات بين البشر تحتاج رصد وتجارب وتسجيل لنتائجها.. ثم إعادة تجربة مسافات أكبر أو أصغر بحسب النتيجة، ونظل هكذا حتى نتوصل إلى المسافة الأقرب للأمان والسلامة في العلاقات.
المسافة بين الزوج وزوجته.
المسافة بين الأب وأولاده.
المسافة بين الأم وأولادها.
المسافة بين الأقارب.
المسافة بين السلايف والأنسباء.
المسافة بين الموظف وزميله.
المسافة بين المدرس والتلميذ.
مسافات ومسافات بلا عدد في العلاقات.. هذه المسافات تختلف باختلاف البلاد والمجتمعات ونوع العلاقات، ومما لا شك فيه أنها تشتكي المبالغة في التقارب في مجتمع «العرب»، وتشتكي من المبالغة في التباعد في المجتمع «الأوربي»، فلكل مجتمع أمراضه، وفي المجتمع «العربي» يؤدي الإفراط في القرب إلى المشاعر السيئة، وفي المجتمع «الأوربي» يؤدي الإفراط في البعد إلى المشاعر الباردة والمعزولة، والنتيجة «عربيا» هي نكد الفرد والمجتمع، والنتيجة «أوربيا» هي مشاعر الوحدة ونقص مذاق الحياة.
***
عندما كان يدرس “عبد الوهاب المسيري” في أمريكا، تراهن مع أستاذه؛ أنَّ الحرية المبالغ فيها في أمريكا، سوف تؤدي حتما لشيوع المثلية والعلاقات الشاذة، وعارضه أستاذه الأمريكي بأنَّ؛ هذا ينتج فقط بسبب الكبت والمبالغة في العزل بين الرجل والمرأة، وأنَّ الأولى بهذه النبوءة هم المجتمعات الخليجية التي تبالغ في العزل بين الرجل والمرأة في المسافات واللباس.
فرد عليه “المسيري” قائلا: «أي مبالغة سواء كانت في المنع أو الإباحة لا بد أن تؤدي للتطرف».. وكسب “المسيري” الرهان..فما نراه اليوم في تسويق وفرض الشذوذ بالعالم وراءه أمريكا صاحبة تمثال الحرية.
أتذكر حوارا بيني وبين أحد الأصدقاء في الخليج؛ حينما اشتكى لي من مشاكل عديدة وخطيرة تنشأ نتيجة عدم حرص المرأة المنقبة عندما تهبط من العربة، فمجرد ظهور جزء يسير من القدم أو الساق يعني شجار حامي وعنيف وربما يمتد إلى قرارات قاسية من الزوج أو الأخ أو الأب تجاهها، وفي جانب آخر شكى لي ظاهرة الميل العاطفي في المدارس بين الطلبة من الجنس الواحد، فاختفاء الجنس الآخر تسبب في اضطراب عاطفي خطير.
في الحالين كان هناك تطرف في مساحة الحرية في أمريكا وفي بلاد الخليج، ولهذا هي دائما مشكلة مسافات ومساحات مفرطة في القرب أو البعد.. المنح أو المنع.. وهذا شغل علماء الإجتماع.. هم الذين يجب عليهم التصدر لضبط هذه المسافات والمساحات بين الناس، ويكون شغلهم مثل من يقوم بتقصير الثوب مرة وتطويله مرة أخرى حتى يصل إلى المقاس المناسب.
***
من المدهش أننا حين نتوصل إلى اختراع بدائي ميكانيكي أو كيميائي نقوم بتجارب كثيرة للتحسين والجودة، ونوالى رصد وتسجيل النتائج حتى نصل إلى المنتج الأخير، مثل السيارة بين بداية اختراعها إلى شكلها النهائي اليوم، عمليات متتالية ولا تتوقف، من التجربة والتحسين، فلماذا لا نمارس نفس العملية في حياتنا المجتمعية، فنجرب ونرصد ونسجل ثم نصل لنصيحة خير للمجتمع، ويتم تطبيقها تحت عيون رجال علم الإجتماع، وتستمر العملية حتى نقترب دائما من تحسين جودة العلاقات ويُسر الحياة وصلاحها.
