يوم الزينة

يوم الزينة

اللوحة: الفنان السويسري يوجين جراست

يتقن صديقي استخدام المطرقة ولهذا يتعامل مع كل شيء وشخص كأنه مسمار. قلت له: أنت تستخدم المطرقة في كل شيء، ولكل «شيء وظرف» أدواته المناسبة. أجاب: ألا تؤمن بالمطرقة؟ هل تريد أن تلغيها؟ قلت: وهل الدعوة للحكمة والرشاد في استخدام الآلة يعني إنكارها أو نفيها!

***

هل الحياة دين؟.. أم الدين حياة؟

الدين عنصر مهم للحياة الصالحة والراشدة وللسلام النفسي والاجتماعي، يتوازى ولا يتقاطع مع عناصر كثيرة في الحياة، وهذا سر القول: «عليك أن تجعل المسجد جزء من المجتمع، ولا تجعل المجتمع جزء من المسجد»، فالفرق كبير، لأنك لو جعلت المجتمع جزء من المسجد فسوف يستولي رجال الدين على المجتمع بحجة أنهم أصحاب المسجد. 

وحين ننادي بهذا القول يندفع صديقي ثانية ليقول: «وهل تنكر الدين؟ هل تريد أن نلغي الدين؟»

***

حين نجتمع في المؤسسة، يشرع الزملاء إلى تبادل الحكايات والشكايات عن قدرهم المسكين «مرض الأولاد، قلة المال، غياب البركة، نكد الحياة»، وكان بينهم زميل كنت زرته بالأمس والتقيت بأولاده، فقلت له: «كيف مرض ابنك، لقد تركته بالأمس طيبا»، فاقترب بفمه من أذني وقال: «لا عليك فنحن نقول هذا الكلام خوفا من الحسد». فتعجبت أن يؤدي الإيمان بغيبيات إلى سريان الكذب بيننا.

***

كلنا يؤمن بالحسد والسحر والجن، لأنها مذكورة في القرآن الكريم، ولكن هل نتفق على تعريفها وحدودها؟، يؤمن صديقي – حامل شهادة الدكتوراه – ومعه «أغلب من أعرف من مختلف شرائح المجتمع الثقافية» أنَّ للعين تأثير فوق السوبرماني، فسوبرمان مجلات الأطفال، يرسل أشعة من قعر العين تنطلق إلى الهدف وتَحرقه، بينما عين الحسود ترسل أشعة «تُفقر وتَقتل وتُفَرِّق بين الأزواج وتُتلف الصحة وتصيب بالاكتئاب وتفعل كل ما يعكس النعمة إلى نقمة»، وبهذا فهي أشعة شريرة وعاقلة.

ونتيجة لهذا الاعتقاد جعل صديقي حياته جزء من الحسد ولم يجعل الحسد جزء من الحياة، فحياته عبارة عن تشمير ثوبه خوفا أنْ تطوله مياه الحسد، والمشمر ينظر أسفل ويفتش في الأرض ولا ينظر أمامه ولا إلى أعلى، يمشي أسير مخاوف وحذر، وهل هذه حياة؟

وحين ألومه على ذلك يقول: «وهل تنكر (الحسد والسحر والجن) المذكورة في القرآن!»

وبدلا من أن يستمع لنصيحتي بترشيد مفهوم «الحسد والسحر وتلبس الجن» لكي يترك مساحة للحياة والسلام، يرفض ويتمسك بألمه ومعاناته واعتقاده بأن للحسد أنياب.

***

كثيرا ما أتساءل في نفسي، هؤلاء السحرة والحاسدون والمستعينون بالجن، أين هم من أثرياء العالم؟، فلو كان للسحر والحسد والجن هذا التأثير المادي والمعنوي في الإنسان لكانوا هم أثرياء العالم والمسيطرون عليه، لأنهم بهذه الأدوات المزعومة يتحكموا في شخصيات ذات «ثروة ونفوذ» فيسلبوهم ما عندهم ويسخِّروهم لرغباتهم، وبهذا يصبحون سادة في الأرض، فلماذا لم نسمع في التاريخ أو الواقع عمن نال الملك أو الثراء بالسحر أو الحسد أو الجن؟ بل يشهد الواقع أنَّ كل من يشتغل في هذا المجال ليسوا أثرياء ولم ينفعهم ما يزعمون من قدرة وبصيرة. «وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ» (69 – طه)

***

نُشر هذا الخبر على صفحات جريدة «المصري اليوم» ومع صورة لممثل شهير، قال: «من فترة السواق عمل حادثة بعربيتي، وعربيتي الثانية بعدها جابت كونترول يونيت، وبعدها بكام يوم ايد بنتي نعومي اتكسرت ولسه متجبسة، وبعدها المكتب بتاعي اتسرق، وامبارح ايدي حصَلَّها تمزّق شديد جدا، انا دايما بقول الحمد لله، بس اموت واعرف مين الي مركز معايا» 

في هذا الخبر نجد عبارات متخلفة تنفلت بسهولة على صفحات جريدة شهيرة وعلى لسان شخصية شهيرة، وهذه الأخبار تسهم في تكريس الأفكار المتخلفة.

***

قال فرعون لموسى عليه السلام: «قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (طه – 59) في هذا العرض إنصاف كبير، ففي الساحة اجتمع السحرة ونبي الله ودارت المباراة أمام الجميع، ولكن غَدَر فرعون بموسى واتهم السحرة بالتآمر معه.

نحن لا نستطيع إخضاع هذه المعتقدات لأدوات الاختبار المادية ولكن ممكن دراسة الأثر المادي المزعوم، وسوف أضرب مثالا تطبيقيا:

«من أكثر ما يشتهر في الناس قدرة السحرة على الإيذاء أو النفع عن طريق أخذ شيء من جسد الإنسان أو مما يستعمله، مثل شعره أو ملابسه، ثم يقوم الساحر بطقوس تنتهي بما يسمى «عملا سفليا» فيقوم بدفنه في المقابر أو في أي مكان، وبعد ذلك يتحقق ضرر لهذا الشخص أو تتغير مشاعره وأحاسيسه، فيكره زوجته أو يعجز عن ممارسة الجنس معها، أو يجلب زوج للبنت أو ينتكس حاله.. إلخ».

«لماذا لا يُستدعى الشخص الذي يزعم امتلاك مهارة في السحر، ويطلب منه أن يمارسه أمام الناس والإعلام، ويعطى خصلات من شعر عشرة شخصيات، وهذه الشخصيات تجهل أنَّ هذه الخصلات منها، وفي نفس الوقت لا يعرف الساحر هذه الشخصيات، ثم يقوم بعمله، وبعد انتهائه يحدد الأثر الذي طبخه في سحره ليصيب كل صاحب خصلة شعر، وتقوم لجنة بدراسة هذا الزعم، قد ينجح في زعمه مع الشخصيات العشرة، وفي هذه الحالة يكون نسبة نجاحه 100%، وقد ينجح مع نصفهم أو عُشْرهم، أو يفشل تماما، ثم يُطلب منه تكرار هذه التجربة على عينات أخرى حتى يتم تأكيد نسبة نجاح الأعمال.

في هذه الفكرة المنطقية، نقوم بحصر الاعتقاد الذي يسود بين العوام، فحين يعلن أمام الناس أن نسبة فلاح هذا المستعين بالسحر أو الجن 10% أو 1% أو صفر%، نكون نجحنا في تحجيمه وحصره أو إلغائه، ويتكرر هذا الاختبار العلني على كل دعاوى (الحسد والسحر والاستعانة بالجن)، وبعد ذلك تستطيع السلطة الدفع بحملات إعلامية وتثقيفية مستندة لهذه التجارب لتفهيم الناس بحقيقة هذه الدعاوى، ويتراجع أثرها في حياة الناس ويتحررون فكريا وشعوريا من الوهم.

ولكننا لا نفعل ولم نفعل.. رغم أن الفكرة بديهية وقابلة للتطبيق.. فكما تقول الحكمة: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، فمن ادعى مهارة عليه بالبينة.

علينا أن نفتش في الأفكار المرهقة والتي تربك وتتعس حياتنا، وخاصة حين تكون أوهام مقدسة أو أسماء معنوية نتهرب من اختبارها.

***

يحكي صديقي: كان لي زميل يعمل معي في الخليج، وكنا نتبادل الزيارات الأسرية، وكان زملائي يتعجبون، ولما سألتهم أجابوا بأنه لا يسمح لأحد بزيارته أبدا، وكان أغلب حديثه عن أنه «خفيف النجم»، وهذا يعني أنه يسهل حسده، ولهذا كان يكثر من الذهاب مع أسرته لأداء شعيرة العمرة، رغم أنها تثقله ماليا، ولكنه يؤمن أن العمرة تعزز مناعته ضد الحسد، وكان كتوما ولا يخبر أحداً عن أي معلومات تخصه مهما كانت بسيطة، فكانت كل حياته تدور حول معالجة ما يطوله من الحسد أو التخفي حتى لا يحسده أحد، وفي يوم زرته معي ابني وزوجته، وبعدها تهرب مني بإصرار، وحين تأكد من أنهم سافروا، عاد ليزورني وأزوره، وحين سألته، قال: «هي ليست مثلك، إنَّ لديها عين حسود»، أفزعني كلامه حتى أنني تعمدت بعدها تخفيف العلاقة بالتدريج حتى انقطعت تماما، لأنها علاقة خطرة ومربكة، فلا أضمن أن تنقلب ظنونه ضدي.

***

لو كانت هذه المعتقدات بالقدر الطبيعي في حياتنا لما تطرقت إليها، ولكن ثلاثي «الحسد والسحر ومس الجن» له شيوع ضار في المجتمع، لأنه حين يطرأ حادث أو مصاب يسارع الإنسان إلى نسبته إلى حاسد، وهذا يضعف العلاقات بين الناس وينشر الظنون وينال من الإيمان بالقدر. وحين يصاب الإنسان بفشل في الحياة أو تأخير تحقيق أماني، يسارع إلى اتهام شخص بآنه استعان بساحر ليضره، وهذا يعطله عن النظر إلى السبب الحقيقي للمشكلة.

وأخيرا علينا أن نتساءل عن السر في شيوع هذه الأفكار عندنا وغيابها في مجتمعات أخرى مختلفة عنا، فاختلاف العقليات هي التي وراء سعادة وشقاء الشعوب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.