اللوحة: الفنان الهولندي جان ستين
ترجمة صالح الرزوق

كانت أسنان أمي عرضة لنخر الأسنان منذ أيام الطفولة.
بعيني الثالثة أستطيع أن أرى فراغات مكان أسنانها، أو يدها وهي تمسك بفمها، أو المنديل الذي تضغط به على الأسنان بعد القلع – ويذكرني ذلك برائحة الحقبة السوفييتية واختفاء الأشخاص من بيوتهم، حين يسحبون من غرفهم المظلمة في الليل، دون أي أمل بالعودة. ما أن يشفى فم الوالدة حتى تملأ الفراغ بأسنان وجسور متنوعة: ويجوز القول إن فم والدتي ليس منها.
وكانت تتذكر الناس الذين يختفون. وتحملت واجب التذكير بهم. ولم تكن مغرمة بشيء قدر التنديد بمساوئ الستالينية. ولسنوات طويلة تأثرت بحكاياتها. ولكنها في أيام مراهقتي أثارت الغضب المتزايد. وخلال رعايتها لنا حرصت على نقل أخبار الأهوال السوفييتية. ولكنها كانت تفتقد لشيء لا يمكنها تقديمه لي.
وزرعت والدتي في ذهني ما رأته أيام المراهقة، في أواخر فترة السبعينات، وكانت طالبة في معهد الموسيقا، ولا سيما شرور الاتحاد السوفياتي، وتعلمت ذلك من أستاذ متعصب مناهض للشيوعية. وقد حملت هذه الأفكار معها إلى الألفية الجديدة، ثم إلى نصف الكرة الأرضية الثاني.
وكان فم والدتي مليئا بالأشباح.
بدأ النخر في أسناني قبل المدرسة الابتدائية. رافقني الوالد إلى طبيبة أسنان، هي إليانورا أليسكانا، وكان صديقا قديما لها، كما أن ابنها طالب في مدرسة ابتدائية يعلم بها الوالد، منذ فترة طويلة. ولجنا صالة مفتوحة وواسعة وتحوي العديد من كراسي العيادات السنية، وفيها نساء قصيرات الشعر، ويرتدين معاطف المخبر البيض، مع كمامات، ويعتنين بأولاد يصيحون من الألم.
أثنوا على حسن سلوكي، وشجاعتي، وتسريحة شعري الجميلة، ولكنني عمدت إلى عض أصبع إليانورا أليكسانا التي نزفت بعد عدة دقائق.
عاودنا زيارة أليكسانا عدة مرات دون مزيد من المشاكل، حتى تم طردنا من روسيا ووجدنا أنفسنا في الولايات المتحدة.
كان أطباء الأسنان الأمريكيون يفحصون فمي، مثل فم أمي، بعناء، ويتأملون محتوياته كما لو أنه موضع أثري يحتوي على بقايا أسنان من عصور قديمة.
وكنت أهتم بأمي دائما.
***
عام 2019 بعد اغترابي أنا وأمي بعام واحد، توجب علي قلع أحد الأضراس. كان مصابا وتسبب لي بآلام فادحة رغم كل أشكال العلاج والمسكنات المتوفرة.
استغرقت العملية ساعات. خلع طبيب الأسنان سني بالتدريج، حتى خرج من اللثة المخدرة. أمسك مرافقي بيدي، ثم أعادني بالسيارة إلى البيت، وتناولنا عجينة البطاطا والشاي.
ابتسمت ابتسامة كبيرة لهاتفي، وتقريبا انحنيت لأنظر بالكاميرا. هذا رابع سن أحرم منه. وكنت قلقة حيال مرأى الفراغ وكيف سيبدو لعين الناظر. ولكن لا تكاد تراه في ابتسامتي الأمريكية. وأرسلت صوري للجميع إلا والدتي.
الفراغ الذي تركته والدتي سريالي. كنت أدور مع شايكوفسكي. وأبكي مع شوبان. وأنوح كثيرا أكثر مما أرقص. ولذلك أغلقت فمي ولم أتذمر. وكان الفراغ الذي تركته والدتي أكبر من اغترابنا. تجويف لجرح تغطيه طبقات من النسيج القرمزي والوردي. ينبض ويؤلم من حين إلى آخر، ولكنه يهدأ بالتدريج مع تقدم الوقت ومرور السنين.
تخلصت من المشاعر الغامضة المتعلقة بالفم، وهو كل ما ورثته عن الوالدة، واستعنت بأنفاسي القوية وعزيمتي، وبصوتي الواثق، وبقدراتي في التعبير عن الوجود الذي أتعايش معه. لم يكن من المفروض أن أفعل ذلك: فقد اعتنت بي حتى كبرت، لأحمل عنها أثقالها، ولأكون يدها مثلا، وجزءا منها، ليس لأنها أنانية ولكن بسبب قدرات الإنسان المحدودة. ومهما كانت محدودة فهي تستحق مني الإطراء.
احيانا أبحث بغوغل عن تشخيصات محتملة لتفسير غياب الوالدة – فهي تبدو غير حاضرة معنا حتى لو كانت تقف أمامي، وكانت ترغب دائما أن أتقدمها، حتى في أيام الطفولة البريئة، كانت تتوقع أن أكون أنا الأم وهي الابنة. وكلما انتبهت لهذه الواجبات غير المجدية، أدرك أنها تستنزفني، وحان الوقت لأهتم بنفسي.
والآن، على وجه العموم، أرى أين المشكلة: هي نتيجة لعدة نكبات من الاضطهاد السياسي، ومعاداة السامية، والبطريركية، وأمراض العائلة، يضاف إليها فترة الحضانة الطويلة التي كنت خلالها برعاية الوالدة، ومحرومة من عناية الوالد. إذا جمعنا هذه المسائل، نجد أنفسنا أمام تروما – أو عقدة نفسية صعبة، ولدي فكرة عنها. فقد عانيت من هذه الأعراض في شعوري الباطن، ودون قصد، وكانت لا تتوقف ولا ترحم.
أسناني، وأسنان أمي: شواهد أضرحة لأموات سوفييت وأشباح لم يجدوا غير أفواهنا ليعبروا بها عن نهايتهم.
*الترجمة عن موقع إلكتروني روسي هو Punctured Lines.

آنا فريدليس Anna Fridlis كاتبة مذكرات وشاعرة روسية تعيش في الولايات المتحدة.