اللوحة: الفنان الفرنسي إدغار ديغا
هناء غمراوي

يوم أمس كان لي موعد مع المسرح. لمشاهدة احد العروض الفنية الصينية على (theater David H. Coch). في منهاتن. وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها عرضاً من هذا النوع، قصدت عرضاً صينياً!. وأنا لا ادعي انني كنت من رواد المسرح الدائمين وان كنت من محبي وداعمي هذا الفن الراقي. وقد كان لي الحظ ان اشاهد بعض العروض الجميلة التي بقيت محفورة في ذاكرتي؛ ومن أهمها عرضين شاهدتهما هنا في نيويورك لسنوات خلت كان أحدهما في بروكلين والآخر في برودواي منهاتن والاثنين اعتمدا انواعاً مختلفة من عروض الباليه ترافقهما فرقة محترفة تعزف موسيقى تشايكوفسكي الخالدة كان أحدهما بعنوان؛ “كسارة البندق”.
أما العرض الثالث والذي لا يمكن ان يُمحى من الذاكرة فكان عرضاً مسرحياً لفرقة كركلا اللبنانية على أحد مسارح جامعة الأميرة نورا في الرياض، حيث كنت في زيارة للملكة العام ٢٠٢٢.
العرض كان بعنوان ” جميل بثينة” وقد أثبتت فرقة كركلا حضورها الفني الباهر بعد كل سنوات الحرب الأهلية اللبنانية التي كان من المفترض ان تعرقل تقدمها وتطورها الفني.
حجزت بطاقتي مما يزيد عن الشهر دون ان أعرف اي معلومة عن العرض الجديد عدا اسمه فقط؛ “شان يان، SHEN YUN” من الاسم عرفت ان العرض آتٍ من أقصى الشرق من الصين. وقد اشتملت زيارة المسرح على رحلة منظمة من ضمنها غداء جماعي في أحد المطاعم التي تقدم المأكولات البحرية.
كنت برفقة مجموعة كبيرة من الرفاق تزيد عن ثمانين شخصاً، انتقلنا بعد الغداء مباشرة الى المدينة بواسطة حافلتين كبيرتين برفقة نينا رئيسة مركز الرعاية المنظم لهذه الرحلة وباري وبعض المساعدات.
الحافلة كانت تضم أميركيين من أصول مختلفة
فلا عجب ان سمعنا بعض المجموعات منهم يرطنون بلغتهم الأصلية وبخاصة الاسبانية، التي يتكلم بها معظم سكان نيويورك القادمين من بلدان اميركا الجنوبية الذين برغم اتقانهم للغة الانكليزية فهم يصرون على التحدث فيما بينهم بلغتهم الأصلية. وجدير بالذكر انهم يشكلون هنا جالية كبيرة لا يستهان بها. أصغر المجموعات المشاركة في الرحلة كانت من الجالية الفليبينية مؤلفة من صديقتي كورا وزوجها وصديق لهما. اما نحن الناطقون باللغة العربية فكنا أربعة فقط؛ صديقتي المصرية، الدكتورة محاسن وزوجها وأخته فريدة، التي مضى على اقامتها هنا في نيويورك اكثر من اربعين سنة، وأنا. وقد ضحكنا كثيرا عندما اعترضت فريدة على تحدثي باللهجة اللبنانية التي قالت انها لا تفهمها فقلت لها اذاً سأحاول التحدث معك بانكليزيتي المتعثرة ربما تفهمين أفضل، وبذلك أحقق رغبة ابنتي التي تحثني دائماً على التحدث بها بغية اتقانها.
حوالي الثانية بعد الظهر توقفت الحافلتان أمام المسرح، وانطلقنا جماعات بهدف الدخول الذي لم يكن منظماً كالعادة، ما أخر دخولنا قليلاً بعد ان زودونا بكتيب مطبوع باللغتين الانكليزية والصينية. يتحدث عن طبيعة العرض واسماء المشاركين والمنظمين له.
عندما اتخذنا اماكننا في صالة المسرح كان العرض قد بدأ…
حاولت أخذ مشهد فيديو صغير للذكرى عدة ثواني فقط ولكن احدى الفتيات المكلفة بتنظيم القاعة اعترضت على ذلك وألحت بشدة على مسحه من الهاتف.
رغم ان هذا التصرف عكر مزاجي قليلاً ولكنني حاولت الانسجام قدر الإمكان مع حركات الراقصين والراقصات على الخشبة والتمعن بأزيائهم التقليدية الغريبة.
العرض تألف من عدة مشاهد كان يقطعها في كل مرة نزول الستارة وصعود مقدميّ البرنامج؛ شابة صينية كانت تتألق بفستان سهرة بلون زاه وزميل لها أميركي كان يقدم للمشهد الذي سيعرض ويعرّف عنه. اما الفتاة فكانت تترجم الى اللغة الصينية ما قاله زميلها بصوت رخيم أقرب الى الموسقى.
الموسيقى التي رافقت العرض، كانت حية نفذتها فرقة كبيرة من العازفين والعازفات. أما الرقصات التعبيرية فكان بعض منها يحاول سرد أحداث وقصص معينة من التراث الصيني عُبرَ عنها باستخدام لغة الجسد حيث حاول الراقصون وبخاصة الشبان منهم تقديمها بحركات بهلوانية كالقفز في الهواء والمشي بانحناءات كبيرة تقليداً للعجائز بالإضافة الى حركات مسرحية تمثل الدهشة، والخوف أو الرفض أحياناً.
اما الصبايا وقد بلغ عددهن اربعة عشر فكنّ يتماوجن على المسرح بأزيائهن الزاهية الألوان
في لوحات بديعة تعبر عن اتقان وابتكار، فقد قدمنّ رقص الباليه بأزياء مختلفة في الشكل واللون عما عهدناه في عروض الباليه التقليدية؛ لم تبدُ الراقصات كبجعات بيضاء بسيقان طويلة يتنقلن على رؤس الأصابع على خشبة المسرح، بل ظهرن كزهرات الحقول بسراويلهن الملونة وأكمامهن الطويلة التي تشبه أجنحة الفراشات في تنقلها فوق الزهور بكل الخفة والرشاقة…
أحياناً كنت أتخيل أن تماوج الألوان على الخشبة يكاد ينقلني الى عوالم الف ليلة وليلة حيث يتجسد سحر الشرق بكل معانيه…
كل ما شاهدناه على الخشبة كان جميلاً ولكنه في الحقيقة لم يكن مبهراً . المبهر، كان في الشاشة العملاقة التي تصدرت خلفية الخشبة. وفي التقنيات الرائعة التي استخدمت في المزج بين العرض الحي على الخشبة، وتواتر الصور على الشاشة حيث جعلت بين خشبة المسرح وشاشة العرض فجوة غير ظاهرة للعين بطول يوازي خشبة المسرح وبعرض لا يتجاوز المتر الواحد استخدمها الراقصون أحياناً كمخرج لمغادرة الخشبة نزولاً واستخدمها التقنيون كخدعة فنية لتصوير الراقص او الراقصة وكأنهما انتقلا من المسرح مباشرة الى الشاشة العملاقة وصارا جزءً منها. فكان الواحد منهم بمجرد مغادرة الخشبة يبدأ بالاختفاء بسرعة ليعود بالظهور مجدداً على الشاشة وبالعكس. جاعلين المشاهد يتوهم انهم يخرجون من شاشة العرض مباشرة وينزلون الى خشبة المسرح …
استمرت العروض الراقصة حوالي الساعتين قطعتها وصلة قصيرة لمغنية السوبرانو، “هولان غانغ” أدتها بمرافقة عازفة على البيانو. ثم وصلة أخرى لعازفة قدمت قطعة موسيقية على آلة شرقية تشبه القيثارة ادتها شابة صينية بمرافقة عازفة البيانو أيضاً..
انتهى العرض، اجتمع الراقصون والراقصات على الخشبة لتحية الجمهور الذي ودعهم بتصفيق حاد.
عندما غادرنا المسرح فاجأنا برد نيويورك الذي هبط فجأة دون سابق انذار حتى حسبنا الدقائق التي سبقت وصول الحافلة زمناً.
كان شعوري في طريق العودة لا يشبه ما قبله، امتلأت نفسي بشعور غامض، لكنه جميل. يلخصه ويعبر عنه القول المعروف؛ ” ليس بالخبز وحده يحيا الانسان”.
ملاحظة:
يعتقد البعض ان فرقة شان يان هي فرقة صينية والبعض الآخر يقول بأنها كورية. ولكن بحسب الكتيب الذي وزع علينا قبل العرض تبين لي ان أعضاء الفرقة من الراقصين والموسيقيين، وان غلب عليهم الوجود الصيني فان من بينهم من يعود لأصول مختلفة كأستراليا وبولندا وتايوان وكوريا واليابان…