اللوحة: الفنان المصري محسن أبو العزم
صباح اليوم كان الأمر مختلفًا، أو هكذا ظننت، إذ رأيت وأنا على عتبة الباب جاري “سامي حنا” يسرع الخطى مبتسمًا، ذلك شيء لم أعتده في الناس هنا، أرجعت ذلك إلى خاطر طاف بباله، لعلها مزحة من بقايا لقاء الأمس بالمقهى، خجلت أن أسأله إذ قد يراني متطفلًا على شئونه، لذلك تجاهلت ابتسامته الغامضة ومضيت في طريقي.
خطوات قليلة وقابلت غريبًا يقطع الشارع من جانب لآخر، كانت الضحكة تضيء وجهه، لم تكن مصطنعة. وإن كنت حقيقة لا أعرف الرائقة من الزائفة منها، لذلك قلت: لعل به ما به، الناس أودية لا نعرف منهم غير ما يرغبون هم، لربما هبطت عليه ثروة، أو نال ترقية في عمله، أو عادت زوجته الغاضبة إلى البيت أو ربما تركته وذهبت إلى أهلها، تلك إذن سر سعادته هذه!
على مقربة كان هناك ثالث ورابع و. و. حتى توقفت مللًا عن العدّ. يبتسمون، منهم من يقهقه حتى أن صدره يرتج من فرط السرور، منهم من تدمع عيناه وتفيض حتى تساقطت الدموع على الأرض وحفرت قنوات رفيعة متعرجة فابتلّت جذور الأشجار القديمة على الجانبين، خمد التراب العالق في الهواء من عقود بعيدة.
قلت مفسّرًا الأمر ومفلسفًا ما يحدث أمامي: لعلها أعراض ما بعد الأزمة الاقتصادية، إذ حين تأخذ المصيبة بخناق العباد يصبحون حيارى، يعتصرهم الحزن عصرًا ثم تغلظ عليهم الكارثة حتى لا يجدون نجاة منها إلّا في الفرار إلى الضحك. لقد ركنتُ إلى هذا التفسير وارتحت إليه.
ثم انغمست خائضًا بين الجموع، تحيط بي القهقهات، البسمات، غمز النسوة، غنج أخريات. كلمة لا معنى لها تنطلق من أحدهم تطيش لها العقول، ينخرطون في إثرها في هيستريا من الضحك.
شيوخ، أطفال، كهول، أقارب، أباعد، زملاء، خصوم، أطياف من كل ملّة ودين، لم يتجاوزوا عتبة الميدان بعد، محشورون غارقون في ابتساماتهم. لقد استشطت غضبًا من هول ما أرى، تجهمت، عبست بشدة ربما أكسر حدّة المشهد بكامله، لعلي أردّ بعضهم إلى صواب كما زعقت، صحت، ضربت الأرض بقدمي، جذبت هذا من ذراعه، تلك من حقيبتها الجلدية، شيخ من عمامته.
كذلك دون ذنب ركلت تلميذًا عائدًا إلى أهله حتى انكفأ، قلت لربما يثور أو يبكي ويطلب النجدة من أبيه، عندها قد يستيقظ الكل من نومه الثقيل. لكن وقع الصبي على الأرض تسبقه ضحكته البريئة، نهض ينفض عن ملابسه التراب ثم حمل حقيبته المدرسية وأكمل طريقه.
لم أشأ الخروج من دائرة الضحك المتسعة ببطء، كما لم أرغب في البقاء فيها. بقيتُ في مكاني وسطهم كعلامة استفهام تقاوم بعناد رغبة عارمة تتأجج بقوة في أعماقي وتأبى إلّا أن تصعد للسطح لكي تعلن ولاءها.
