استنبات القارئ

استنبات القارئ

اللوحة: الفنان الألماني غيرهارد فيلهلم فون رويترن

تحكي نكتة شهيرة أن: «شاهد خواجة إنجليزياً فلاحاً يتناول وجبة من المِش الذي يسبح فيه الدود بكثافة، فأقسم أنه سيموت فورا بسبب هذه الوجبة من الميكروبات، وعندما أتم الفلاح الغداء اللذيذ وقام لمواصلة الفلاحة بنشاط، مات الخواجة من الصدمة».

***

كانت بدايات الإمبراطورية البحرية الاستعمارية لإسبانيا والبرتغال وهولندا، ثم تراجعوا وحل مكانهم الإمبراطورية «الفرنسية والبريطانية»، ومن التفسيرات المنطقية لتراجع الإمبراطوريات الثلاث قلة عدد السكان، وزيادة عدد سكان فرنسا وبريطانيا، فحروب نابليون مع كل أوربا في حملات متتالية، كان يعززها عدد سكان فرنسا المتزايد، ويُروى عن نابليون حين عوتب في القتلى والجرحى من الفرنسيين في معاركه أنَّه قال: «دخلي السنوي مائة ألف جندي، فطبيعي أن أخسر عشرين ألف في المعارك»، فكان ردا مدهشا لتشبيهه الجنود كراتب سنوي.

حين احتلت فرنسا الجزائر عام 1830م، كان عدد سكان فرنسا يقترب من الثلاثين مليون، وكان عدد سكان الجزائر ثلاثة ملايين، فكان عدد السكان عامل مهم في فرض الاستعمار وفي قدرة الشعوب على مقاومة المستعمر أو السلطة الغاشمة، ويستثنى من هذه النظرية «الهند»، فقد تم احتلالها لقرون بعدد قليل من الجند، ولكن يعزى ذلك إلى أنَّ الاحتلال كان في البدايات ولمدة طويلة على الساحل الهندي فقط، ثم جاء التوغل بمرور السنوات الطويلة تدريجيا.

***

أتقمص نفسية الخواجة وأنظر اليوم إلى عدد السكان في مصر.. فمصر وبسبب تاريخها العريق مع الفقر والاستعمار والاستبداد عبر قرون طويلة، كانت تبتلى بالمجاعات والأوبئة التي تُنقص من عدد السكان، وحين تسلمها «ناصر» كان عددهم 18 مليون، واليوم وصل العدد أزيد من 110 مليون، «قفز العدد إلى ستة أضعاف»، لهذا من المستحيل أن يستمر الحال دون عقد اجتماعي جديد لأنه: «من المستحيل أن يظل المواطن نملة تُحلب وتُفرم.. من أجل الوطن كما يقال».

«من المستحيل أن يظل المواطن مفعولا به دون أمل في حقوق الحياة التي تتباعد عن إمكانه كل يوم.. الأكل والشراب والزواج.. من أجل الوطن كما يقال»

ولهذا أقول كما قال الخواجة: «مستحيل.. لا بد من عقد جديد يكون للمائة وعشرة ملايين رأي فيه، فحظيرة الخراف المحاطة بسور ثابت، ومع تكاثر الخراف داخله، لا بد أن يتزحزح السور من جوانبه، ونحن لسنا أقل من الخراف أو على الأقل نتساوى بها».

***

هناك دائما خاطر غالب على الإنسان، يتردد داخله دون وعي وهو هَمّه الأكبر، مثل من يعشق فتاة فيتغلب عليه – كل الوقت – التفكير بها، الأمثلة كثيرة وتختلف بحسب السِر في كل إنسان، هناك من فتاته: «المال – السلطة – الانتقام – الهِجرة – أو أحلام شاردة».

ولا أنكر أن فتاتي في رحلة الحياة تقلبت بين هذه الأصناف وغيرها، ولكن فتاة اليوم التي هي حلم المحطة الأخيرة – قصرت أو طالت – تختلف، يغلبني بسببها شعور من كان في يده ثروة كبيرة وأهدر وأنفق أكثرها، وتبقى القليل ومعه ثمرة الرحلة من الخبرة والمعرفة وربما الحكمة، ولا يجد لها سُوقا، وكلما مر عام يخترقه شعور من هبط إلى ملعب الحياة والوقت يمر ولا يحرز أهدافاً، رغم أنه تدرب بما يكفي.. ويدرك أن لو أطلق حكم المباراة صفارته سوف يخرج بلا عودة… وسيندم.. ويقول ليتني وليتني.. وفي ندمه تأتيه الحكمة الأكبر متأخرة.. ويصبح بصره حديد.. ويرى الثغرات التي كان من الممكن أن يشتغل عليها ولكنه عمي عنها.. فلم يستخدم آلاته واشتغل فيما لا يثمر ولا يخلد.

***

هذا المجتمع مغلق إغلاقا أشبه بالسحر.. وهذا تطور جديد في آخر خمسين عاماً، أصبحت العلاقات مستحيلة رغم أن الناس يزدحمون في اللوحة.. ولكن هناك غاز يتنفسه الجميع فيمنع التواصل.. فالكل يراك مثلما يرى السيارة لكي يتجنب الصدام معها وفقط.. الكل يتحدث إليك وكأن الثانية التي سينفقها في الحديث معك ستفقده ملايين الدولارات.. وربما يخشى أن يتورط معك في أي التزام.. وربما يسترخمك ويراك أحمقا والأفضل أن تختفي من اللوحة.. ربما وربما.. ولكن الخلاصة.. لا تواصل.

***

في الماضي حين كنت طفلا وصبيا ومراهقا وشابا كان هناك من يؤثر في مسار حياتي.. كان هناك دفئا وحياة تنبعث من المحيط.. جيران وأصدقاء وأقرباء وزملاء الفصل ومعلمين.. إلخ..

الكل يتواصل معا ويُلهم بإشارات الطريق.. التحقت بالهندسة بسبب جاري الذي يكبرني بسنوات.. وأدمنت القراءة بسبب جار آخر.. وتدينت طفلا وصبيا بسبب معلم بالمدرسة.. وهكذا كانت الحياة في كوكبنا قبل أن ينطلق هذا الغاز الخفي الذي جعل العلاقات زئبقية ومستحيلة.. فأصبحت اللوحة وكأنها تجمع مسحورين خاضعين للتنويم المغناطيسي.. كل واحد ينطلق وفقا للسحر الذي تنفسه بلا وعي.

***

يقول الدكتور «عبد الكريم بكار»: «إعراض شبابنا عن القراءة مشكلة أكبر من مشكلة البطالة والطلاق وإدمان المخدرات، لأن الجهل هو الطريق السريع لذلك».

حاولت كثيرا وطويلا أن أبحث عن قارئ لأعلمه الكلمة والمعنى والخيال والتعبير.. والرأي، فهذه بضاعتي الأخيرة.. ولم أفلح حتى الآن رغم تكرار محاولاتي.. فلا يفهم الناس إلا الدروس الخصوصية.. تقوم بتدريس مادة وتأخذ مال يا «مستر»، لا يفهم الناس أنْ تتبرع بتعليم الناس علما مجانيا وغير مدرج في المنهج الدراسي، يرتابون في عقلك أو نيتك، فالناس لا يهمهم أن يدمن ابنهم القراءة.. بل يحتقرون ويحذرون ذلك، ليدمنوا أي شيء إلا القراءة.. فالقراءة تعني مخ فاضي.. ومثاليات بعيدة عن الواقع.. والأفضل أن يتعلموا ما ينفعهم ويُترجم إلى مال، ولكن مهما أطلقنا من ثرثرة، فالمجتمع أصبح من الرمال، وأرض الرمال تحيا وتخلد مثلما تخلد الصحراء، ولكن مجتمع الرمال البشرية مهدد بالفناء، ولهذا لا بد من استصلاح الصحراء البشرية، ولا بد من بداية.

***

في جسم الإنسان عناصر كثيرة معروفة، ويراعى إجراء تحليلات متكررة لمعرفة نسب تركيز هذه العناصر في الجسم، وهناك عناصر قليلة ودقيقة أيضا، المدهش أن سلامة جسم الإنسان في اتزان كل هذه العناصر، بمعنى أن اختلال أي عنصر «أساسي أو ثانوي» يؤثر ويورث مرضا أو ضعفا، ومثال ذلك فيتامين «دال»، يؤدي النقص فيه لأمراض خطيرة وخبيثة، ومهما حاول الإنسان التسلح بأسباب الصحة ونسي هذا الفيتامين سوف يذهب جهده في نيل الصحة هباء، ويُطَبَّق نفس القانون على النباتات، فخبراء التسميد يعرفون أهمية توازن نسب العناصر التي يجب تغذية النباتات بها.

***

كل مجتمع يحتاج ما يؤمن له طعامه وشرابه وكساءه ودواءه وبقية المتطلبات التي تقيم المجتمع، يحتاج أيضا تخصصات هامة، هناك مدينة تحتاج ثلاثة أطباء في كل تخصص، فلو توفر طبيب فقط لكل تخصص لصعب تلبية احتياجات هذه المدينة، فماذا لو عَدمت هذه المدينة الأطباء وتولى العلاج حلاقي الصحة؟، لا شك أن هذه المدينة معرضة لخطر شديد، فماذا لو أنَّ أهل هذه المدينة يؤمنون بخبرة وبركة حلاقي الصحة ويفضلونهم على الأطباء؟ لا شك أنَّ المصيبة سوف تتفاقم، لأن اعتقاد الناس سوف يكون حائلا كثيفا أمام إقناعهم بضرورة تحريض بعض أبنائهم على نيل هذه التخصصات بأسرع وقت.

لن أحتاج للتخيل لأن ما سأصفه هو الواقع، واقع أنَّ كل أطفال وصبيان وفتيات وفتيان المدينة لا يوجد فيهم من يهوى القراءة ويتذوق الكلمة، فالموبايل والشاشة وبقية الأدوات الحديثة أبعدتهم تماما عن الكتاب وسوق المعرفة، وبهذا أصبح القارئ نادراً أو غير موجود في المجتمع.

قارئ بين مائة فرد جيد، وقارئ بين ألف جيد، وقارئ بين عشرة آلاف ليس كافيا ولكنه يسد الحاجة، وقارئ بين خمسين ألف مصيبة لأنه سيذوب في المجتمع، وقارئ بين مائة ألف مصيبة أكبر لأنه يعتبر صفر قارئ، وطالما القراءة والقارئ مختفي في مجتمعنا فلا بد أنه مجتمع بلا معرفة ولا خيال ولا حكمة، ولهذا وجب توفير هذا المخلوق النادر الذي يسمى «القارئ»، ونظرا لأنه أصبح مع المستحيلات الثلاثة « الغُولُ، والعنقاءُ، والخِلُّ الوفِيّ»، فوجب تدبير مناخ وظروف وصُوب صناعية لإنبات قارئ في صحراء شعبنا.

***

في تاريخ البشر حدثت مجاعات وأوبئة كثيرة ومهلكة، وكادت تُفني البشر، ولقد كان من حسنات اكتشاف الأمريكتين معرفة «تقاوي البطاطس»، فهذا الطعام تسبب في منع المجاعات في الأرض، ومازال يعتبر طعام الفقراء، لنتخيل أول رحلة بحرية قادمة من أمريكا وعلى متنها شوال ممتلئ بتقاوي البطاطس، كم يلقى هذا الشوال من عناية حتى يُحتفظ بالتقاوي سليمة دون أن تفسد، وكيف الجهد المبذول في نثر هذه التقاوي في الأراضي بحرص والخطوات الأولى لرعاية انتشار زراعة البطاطس في البيئة الجديدة بنجاح حتى تصبح البطاطس في كل مكان، وشكرا للأبطال الذين اكتشفوا ونقلوا هذا الطعام لبقية قارات الأرض وأنقذوا الفقراء.

***

نظرا إلى أنَّ مجاعة العقول لا تقل عن مجاعة البطون، والقارئ هو بذرة الحكمة التي يحقن بها المجتمع فيرشد، ولا بد أن يكون القارئ ابن البلد، فتكون قراءاته معجونة بخبرته بمجتمعه وجغرافية بلده ومناخها، فعلينا توفير مناخ أشبه بنظام «مدارس المتفوقين والعباقرة»، فحين تكون الدولة لاهية أو عاجزة عن توفير المناخ العلمي المثالي لكل الناس، عليها أن تخصص مدارس تملك أعلى مستوى من رعاية المواهب التي سوف تحفظ للمجتمع تفوقه العملي والفكري.

على المجتمع واجب مواز، فكما يحدث في نوادي كرة القدم، حين يتبرع مشجع من رجال الأعمال، فيمنح سيارة للاعب أحرز هدفا، أو يتبرع بنفقة رحلة تدريب فريق لبلد أوربي، علينا أن يتطوع منا من يعلن في قصور الثقافة أو النوادي الأدبية عن مسابقة في القراءة وتكون جوائزها مغرية للشباب، فيقرأ من لم يجرب حلاوة القراءة طمعا في الجائزة والتسابق، وبهذه الطريقة تبدأ زراعة بذرة القارئ في بلادنا، ونبتدع قناة دفق تبرعات جديدة، ويخف الضغط قليلا على التزاحم على التبرع لشنطة رمضان ومستشفى خمس خمسات.

رأي واحد على “استنبات القارئ

  1. بوركت وعوفيّت أستاذنا القدير
    في مجتمع هشٍ، سطحي، يشجعون كلّ شيء، ويستثمرون في كلّ شيء سوى اقتناء الكتب
    والتنوير والمطالعة.

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.