يوميات هناء في نيويورك – رحلة تكساس إلى هيوستن

يوميات هناء في نيويورك – رحلة تكساس إلى هيوستن

اللوحة: «هيوستن» للفنان الفرنسي إميل ثيرون

هناء غمراوي

أخيراً حطت بي الطائرة في مطار هيوستن قادمة من كارلتون. لم تستغرق الرحلة اكثر من ساعة ونصف فما زلت ضمن نفس الولاية، تكساس. 

تقع هيوستن في القسم الشرقي من ولاية تكساس، وهي المدينة الأكبر فيها ورابع اكبر مدينة في الولايات المتحدة كلها.

في هيوستن حركة ثقافية واقتصادية مهمة ويعتبر ميناء هيوستن من أكثر الموانئ العالمية ازدحاماً..

كما انها تحتوي على عدد كبير من المتاحف والجامعات المهمة. وقد كنت أمني نفسي بالتعرف على أكثر معالمها..

هكذا شاءت الأقدار ان أدخل هذه المدينة حزينة، متشحة بالسواد. وانا التي كنت قد خططت مع صديقتي لقضاء أجمل الأوقات الحافلة بالنزهات الجميلة، والرحلات الاستكشافية المهمة.

الأحد، بحدود الثانية بعد الظهر كانت صديقتي لبنة مع زوجها وولديها في استقبالي في المطار.

تناولنا الغداء في أحد مطاعم المدينة، ثم كانت لنا جولة بالسيارة في بعض شوارعها الرئيسية، قبل التوجه الى ضاحية “كاتي” حيث مكان سكنهم. 

وكعادتي كلما زرت مدينة جديدة أبدأ في اللاوعي بمقارنتها بمدينة نيويورك التي اعتدت عليها وزرت أكثر معالمها. هذا ما حصل لدى زيارتي لمدينة مونتريال السنة الماضية، مع انها كانت زيارة قصيرة جداً. وهذا ما حصل أيضاً خلال تجوالي في السيارة، يوم وصولي لهيوستن ومشاهدتي الأولية لمعالم المدينة، ومنشآتها العمرانية.

لعدة اسباب أخذت زيارتي هذه طابعاً عائلياً أكثر من كونه سياحياً. فأنا لم أكثر من الخروج للتعرف الى معالم المدينة. لان وصولي كان بعد ظهر الأحد، وبدأ الاسبوع الأول من زيارتي بخمسة ايام عمل، ودوام مدرسي للأولاد.

ولكن صديقتي عوضتني عن ذلك بالنزهات اليومية التي كنا نمارسها كل صباح في رياضة المشي داخل المجمع السكني الكبير الذي يمتد على مساحة كبيرة جداً، من الأراضي المستصلحة والمعدة للسكن ولا تشبه أي من المجمعات السكنية التي شاهدتها من قبل. فهو مفتوح من كل الجهات وغير محدد بسور كباقي المجمعات السكنية، التي شاهدتها في ولاية أريزونا. حين زرت بعض الأصدقاء منذ سنوات في مجمع سكني في تشاندلر.

تشتمل ضاحية كاتي على عدد كبير من هذه المجمعات السكنية الحديثة البناء تجاورها احدى الغابات الشاسعة التي تضفي على المنطقة جمالاً وحياة. على أطراف تلك الغابة انتشرت بعض البيوت السكنية، الذي يدل شكلها على قدم وجودها في تلك المنطقة. وظاهرة السكنى داخل الغابات وعلى أطرافها ظاهرة معروفة في أكثر الولايات الأميركية فقد رأيت كثيراً منها في مناطق متفرقة في نيويورك وكذلك في أوكلاهوما أيضاً.

المجمع الذي تسكنه صديقتي، يسمى; كاتي لايكس KATY LAKES وهو يشبه قرية صغيرة تمتد على مساحة مسطحة من الأرض ” في الأغلب كانت صحراوية قبل استصلاحها” ينتشر عليها عدد كبير من البيوت أغلبها مستقلة ومختلفة في الأحجام، أما أشكالها فتبدو عن بعد متماثلة بسقوفها الرمادية، المسننة وإن اختلفت قليلاً من حيث الارتفاع.. فبعضها كان يتألف من دورٍ واحد والبعض الآخر من دورين فقط. المساحات الأمامية في الغالب كانت تزينها بعض انواع الزهور والورود. اما الحدائق الخلفية فهي مسورة ولها باب خاص استغلها بعض السكان لإنشاء أحواض سباحة خاصة، او حولوها الى ملعب صغير لأطفالهم لممارسة لعبة كرة السلة وغيرها من الألعاب…

الميزة التي لفتتني ايضاً في هذا المجمع السكنيّ وجود عدد كبير من البرك المائية التي تشبه في شكلها البحيرات الطبيعية رغم صغر حجمها ويبدو ان تسمية المجمع بذلك الاسم ينسب لكثرة وجود هذه البرك، وانتشارها على طول المجمع، والتي يحسب من يشاهدها لأول وهلة

انها برك طبيعية تشكلت من تجمع مياه الأمطار، ولكنها في الواقع هي برك اصطناعية حفرت ومدت اليها المياه بطريقة مخفية لتبدو كأنها طبيعية. وهي ممتدة على امتداد المجمع وموصولة بشبكة مخفية لسحب المياه اليها. يتوسط بعضها نوافير مبرمجة للعمل تلقائياً برش الماء بأشكال هندسية جميلة. ولا شك ان انشاء هذه البرك لم يكن عبثياً وليس الهدف منه تجميل المنطقة وحسب وانما أيضاً بهدف تلطيف المناخ؛ حسبت ذلك بعد اقامتي لمدة اسبوع فقط حيث ارتفعت الحرارة بشكل مفاجئ، بداية الأسبوع الثالث من شباط / فبراير في حين تكون الحرارة ما تزال متدنية جداً في نيويورك، مع تساقط بعض الثلوج في مثل هذا الوقت من السنة.

لاحظت أيضاً خلال تجوالي اليومي في المجمع خلوّه من أي مركز صحي او تجاري.. وأقرب ميني ماركت يقع على أحد أطرافه ويبعد أكثر من ثلاثة كيلومترات عن البيوت السكنية.

كانت المدة المحددة لزيارتي أقل من اسبوعين؛ وهذا يعني ان أمامي عطلة نهاية اسبوع واحدة

لاستكشاف معالم المدينة. فقد كنا نزورها خلال

ايام الاسبوع على عجل للتسوق او للتنزه في بعض الحدائق القريبة في فترة ما بعد الظهر؛ تلك الحدائق التي صممت بطرق مماثلة لبعض حدائق نيويورك من حيث تنسيق الزهور وان اختلفت بوجود العديد من الممرات المائية بينها.

صباح السبت، بداية ” الويك اند” الأول انطلقنا باكراً باتجاه المدينة برفقة صديقتي وعائلتها وكانت صداقتي خلال هذا الأسبوع قد توطدت مع ابنها الأصغر أمير ذي السنوات العشر، من خلال تواصلي اليومي معه ومساعدته في حل بعض واجباته المدرسية التي كان يميل الى التقاعس في اتمامها وكنت أنا أحاول دائماً أن أشجعّه بطريقتي الخاصة. بعكس شقيقه الأكبر أشرف الذي كان يبالغ بالاهتمام في انجاز دروسه، وفروضه المدرسية. أمير طفل ذكيّ جداً، وهو مغرم بالتكنولوجيا، وقد توصل الى تطوير بعض الوسائل الموجودة في منزلهم رغم حداثة سنه. وهو يتحدث عن انجازاته بلغة طفولية محببة، وبخاصة، عندما يريد يشرح لي بعض الأمور المعقدة تكنولوجياً وكيف أنه يستطيع حلها بسهولة …

بعد حوالي ساعة، ترجلنا من السيارة ومشينا باتجاه حديقة كبيرة جداً اشجارها ضخمة باسقة وتتخللها ممرات مائية كثيرة… بجانبها انتصب بناء عالٍ جداً يشبه المسلة الفرعونية في شكلها المكعب، الذي ينطلق من قاعدة عريضة ثمّ يبدأ بالضمور تدريجياً حتى ينتهي برأس مسنن.! ولم اتمكن من معرفة لماذا تقام مثل هذه الأشكال من الأبنية، حيث انني رأيت نفس هذا الشكل من البناء عندما زرت واشنطن دي سي، السنة الماضية وكانت تمتد امامه أيضاً ذات البركة المستطيلة من المياه. ولما سألت ذكر لنا يومها مرافقنا الأميركي فقط بأن هذا المبنى، هو مبنى حكوميّ.! في كل الأحوال ما يهمني من الموضوع، كان بركة المياه المستطيلة الشكل التي امتدت امام مبنى هيوستن، وتجمعت فيها أعداد كبيرة من طيور البط والإوز. الذي أعطى المشهد جمالاً وحياة وبخاصة ذلك التصميم المتدرج لأحد جوانب البركة والذي جعل المياه تنساب منها وتتدفق على شكل شلالات صغيرة تبهج العين وتطرب الأذن.. 

خرجنا من المكان بعد حوالي ساعتين بعدما بذلت صديقتي جهداً كبير في إقناع ولديها بالمغادرة لانهما كانا يستمتعان باللعب داخل الحديقة التي ضمت أيضاً عدداً كبيراً من الملاعب والملاهي المتنوعة..

جولتنا بعد الغداء في شوارع المدينة استمرت لحوالي ساعة توجهنا بعدها الى كاتي لايكس مكان سكن صديقتي الذي يبعد حوالي ساعة عن المدينة قبل ان يخيم الظلام. 

صباح الأحد كانت رحلتنا من اختيار صديقتي التي استعانت ب غوغل لتكتشف لنا مكاناً مميزاً ومختلفاً عن نزهة الأمس.

انطلقنا صباحاً وأمير بجانبي في السيارة يحدثني ويمتحن معلوماتي البسيطة في التكنولوجيا ويضحك ضحكته الطفولية المعتادة عندما أفشل في الإجابة أحياناً، والتي كنت أتعمدها لأفوز بضحكته البريئة، اما شقيقه اشرف والذي يكبره بسنتين فقط فكانت شخصيته مختلفة تماماً؛ فهو جديّ، وصامت أغلب الوقت ولا يظهر عاطفته كثيراً.

لم تفصح صديقتي عن وجهتنا هذا اليوم.

دفعت بعنوان الموقع الذي عثرت عليه في غوغل الى زوجها قبل ان ننطلق وتركت الموضوع مفاجأة لي وللأولاد.

بعد اكثر من ساعة وجدنا أنفسنا أمام ساحةٍ كبيرة جداً ركنت فيها مئات السيارات …

كان علينا السير مشياً على الأقدام مسافة قليلة قبل الوصول الى المعبد الهندي الذي اختارت أن نزوره. وقد ظهر لنا عن بعد بقببه المتعددة ولونه الابيض الناصع.

اول ما طلب منا عند وصولنا خلع أحذيتنا قبل صعود الدرج المؤدي الى بابه الرئيسي مع التشديد علينا بعدم أخذ الصور….

المعبد كما عرفت لاحقاً قد بني حديثاً بناه أحد المتمولين الهنود على نفقته الخاصة. وهو يتألف من أكثر من طابق، ومن عدة أجنحة…

الميزة الرئيسية انه صنع من الرخام الأبيض الخالص، والمحفور بأيدي فنانين مهرة. لذلك ظهر البناء عن بعد كأنه مطلي بلون أبيض. كما استخدم نفس الرخام المحفور يدوياً وبكثرة في تزيين المداخل والجدران والسقوف. وقد وضعت داخله العديد من التماثيل بعضها طوليّ نصّب في الباحات وأخرى نصفيّ وضع في أماكن مخصصة محفورة داخل الجدران. وقد تم كسوة هذه التماثيل بالأزياء الهندية التقليدية، لنساء ورجال يمثلون في الغالب رموزاً مقدسة في الديانة البوذية التي يعتنقها غالبية سكان الهند.

المكان بدا لنا بوضوح انه ليس متحفاً، ولا مجرد مبنى لعرض نماذج من التراث الهنديّ، وانما هو مكان عبادة حقيقيّ. فالدخول اليه كان مجاناً، ومعظم رواده كانوا من الهنود المؤمنين المقيمين في هيوستن،ظهر ذلك من خلال لباسهم، ولأنهم كانوا خلال تجوالهم يأدون صلوات معينة، ويقومون بأداء حركات واشارات تنم عن تقديس المكان ومحتوياته…

قبل الخروج من المعبد طلب منا ومن جميع الزوار ان نقوم بصب الماء المقدس من كأس على رأس أحد التماثيل الموجودة ففعلنا.

غادرنا ونحن مازلنا نتحدث فخامة المكان، الذي يعتبر بحق تحفة معمارية هنديّة؛ وقد سنحت لي الظروف ان أشاهدها هنا على أرض مدينة هيوستن الأميركية.!

بعد خروجنا كان من الطبيعي ان نأخذ الكثير من الصور في محيط المعبد، وقرب واجهته الأمامية فالتصوير في الخارج مسموح! وهذا لم يمنع من حصولي على بعض الصور الداخلية خلسة بمساعدة صديقتي. 

انتهى الأسبوع الأول من زيارتي، عاد الأولاد إلى المدرسة وعدت الى استئناف نزهاتي الصباحية اليومية مع صديقتي وبخاصة بعدما اكتشفت وجود بعض نبتات الهندباء داخل المساحات الخارجية، المحيطة بالمنازل. وتعتبر الهندباء من الخضروات المفضلة عندي والتي كنت أحرص على شرائها باستمرار.

لقد وجدتها هنا في الطبيعة، فكنت أتسلى يومياً بجلب كمية ولو قليلة منها فكانت بالنسبة لي تسلية وفائدة في الوقت نفسه…

صباح السبت بداية عطلة الاسبوع الثاني لزيارتي غادرت هيوستن وعدت الى نيويورك في رحلة استغرقت حوالي ثلاث ساعات.

ربما لم تحقق رحلتي الى تكساس هدفي في اكتشاف معظم معالم الولاية، وزيارة العديد من المتاحف والمعابد وجميع أماكن الترفيه التي كنت أنوي زيارتها. ولكنها بالمقابل قدمت لي دعماً انسانياً وعائلياً من قبل صديقتي لبنة المحبة والمساندة، وزوجها شريف الراقي والودود كأخ، وولديها اللطيفين الرائعين. 

نعم كان وجودي بينهم في هذا الظرف الحزين بمثابة بلسم لجرحي الكبير الذي سببه رحيل أخي المفاجئ قبل ثلاثة أسابيع.

عدت الى نيويورك، ولكن ليس كما غادرتها قبل أقل من شهر.!

برحيل أخي انطفأ في داخلي بريق الدهشة والفرح الذي كان يرافقني اينما حللت.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.