اللوحة: الفنان البلجيكي ليون سبيليرت
هناك «أفلام وروايات وأحداث» لا يمكن أن ننساها، نحن ننسى كل شيء طالما يجري وفق الروتين والعادة، ولكن تأتي لحظة تُخترق فيها الذاكرة من وراء الوعي، فَيَنْقش في صفحتها ما لا يمسح طوال العمر، فللذاكرة شفرة، فلا يكتب فيها إلا من خلال سر ينفعل لا إراديا، وليس بما نُقحمه فيها، ومن القصص التي نقشت في ذاكرتي فيلم «indecent proposal».
***
رجل أمريكي ثري بلا حدود، يقابل في حفلٍ سيدة، يملكه شعور أنه لم تقع عينه على مثلها طوال حياته، رآها تجسيدا لجمال الجسد والروح، فانفلتت منه مشاعر الفقر، شعر أنه مسكين ومحروم طالما لم يرتبط بها، ويحسد زوجها على حظه النادر، ثم يسمعها تبوح بصوت مسموع، أنَّ ثمن تُحفة واحدة مما يتناثر بالحجرات يحل مشاكلها كلها».
هنا سأتوقف كي أتخيل هذه القصة مصرية قبل أنْ أرجع بها إلى أصلها الأمريكي.
***
لو كانت القصة مصرية لكانت تكرارا لحكايات معروفة من قهر الرجال واغتصاب النساء، سمعنا قصصا عن شخصيات ذات سلطة قاهرة، استعملت نفوذها للاستيلاء على الزوجات، قتلت الزوج أو أرغمته على تطليقها أو قبول علاقة محرمة مع الزوجة ويصمت.
هذا السيناريو مصريا وعربيا مقبول ومعتاد في عالمنا الثالث، يذكرنا بفيلم الزوجة الثانية، ومذكرات «اعتماد خورشيد» ومأساة السندريلا، ويذكرنا حديثا بفيلم «مرجان أحمد مرجان» ذلك الثري خفيف الدم الذي أغرى الزوج بمنصب ومال، فترك خطيبته بسهولة، فأثبت مرجان لها أنَّ كل الناس تُشترى بالمال وتَشرب «الشاي بالياسمين».
***
أما عن النسخة الأمريكية الأصلية فالأمر مختلف، التوحش ناعم وبلا مخالب حديدية ولكنه واثق وبطيء وحاسم ووفقا للقانون.
يتوجه الثرى إلى الزوجين ويعرض عليهما صفقة، عَرَض مبلغا من المال يُحدث لهما قفزة كبيرة في حياتهما، على أن تقضي المرأة معه عدة أيام يستمتع بها ومعها، ثم تعود لزوجها سالمة.
رفض الزوجان فورا وبقوة، ثم رجعا للمنزل، ودارت عجلة التفكير في رأسيهما، فالثري قذف البذرة في روعهما وتركها تشتغل، قالت لزوجها: «ألا تعلم أنني قبل أنْ أتزوجك مارست الجنس مع آخرين، وأنت أيضا فعلت ذلك، هذه هي أمريكا وطبيعة حياتنا، هل كان لتلك العلاقات تأثير على حاضرنا، لقد طوينا تلك الصفحات والتجارب، واختار كلانا الآخر وأصبحنا سعداء».
«ماذا لو وافقنا، وبعد تنفيذ الصفقة نلقيها في سلة الماضي ونمحوها من الذاكرة، فالحب بيننا مُحَصَّن ولا يمكن المساس به»
***
فكرة عقلية بسيطة.. في سلة مهملات حياتنا علاقات كثيرة من الماضي وسوف نلقي هذه العلاقة القصيرة في نفس السلة بعد الانتهاء منها.. ثم نعود لحياتنا ومعنا ملايين الدولارات، بيع وشراء وننسى الصفقة كلها، هذه هي الرأسمالية العارية، ولا تعايرني ولا أعايرك، فنحن العرب لدينا نموذج للقهر بالعصا وهم لديهم نموذج للقهر بالجَزَرة، وكلاهما يسلب الإرادة، كما جسَّدَها «يوسف إدريس» في قصته «النداهة».
***
وتمت الصفقة.. ذهبت وهي واثقة أنَّ مشاعرها وذاكرتها الجسدية لن تُمس، فجسدها الذي انفعل بآخرين كثيرا، لا ضرر عليه أن يخوض تجربة انفعال أخيرة ثم ترجع، ولكنها نسيت أمرا خطيرا خبيثا، نسيت الفالوذج.
***
كان الفالوذج طعام الملوك في زمن العباسيين، تشتهر منه قصة أحد علماء الدين الذين لم يستطع المَلك أن يؤثر على ضميره، فاستدرجه لمأدبة طعام بريئة، فقبل الحضور وذاق الفالوذج، ثم لم يجد بعدها نفسه، وأصبح من علماء السلطان.
قد تكون هذه قصة حقيقية أو من الخيال ولكن يظل المثال صحيح، أن يتذوق الإنسان شيئا، ماديا أو معنويا، ثم لا يجد نفسه بعدها.
***
فوجئت المرأة بأمرين: الأول: الرفاهية الطاغية.. فالطعوم والأذواق والروائح كلها جديدة وبعيدة عن خيالها البِكر، لم تكن تدرك أنَّ في الدنيا مثل هذه الاحاسيس الفاحشة الثراء والمتجاوزة للخيال، فاشتغل كل هذا فيها، وأصبحت أشبه بمن تعاطى أنواعا سحرية من المخدرات التي ينفعل بها كل ما فيها روحا وجسدا، فكان لا بد أن يترك كل هذا أثرا بعد أن تغادر الحياة الساحرة.
الثاني: مشاعر الثري كانت كثيفة وصادقة، لأنه عرف قيمتها وأدرك أنه فقير بدونها، ووصلت تلك العناية والمشاعر لها، ولم تهزمها ولكنها تركت أثرا عميقا مثل أثر الروائح والرفاهية فيها.
وكان طبيعيا أن تعود لزوجها بعد الصفقة وهي تترنح، لأنها تحمل آثار اغتصاب طوعي نادر وليس له مثيل.
عادت وعلى جسدها وخيالها وأحاسيسها وذاكرتها بقايا التجربة، ولكي تنفضها عنها ستحتاج وقتا، فالأمر أصعب من الأعراض الانسحابية للمخدر، لكنها رغم التجربة مازالت تحب زوجها، ولا تريد صاحبا في الحياة سواه، وما تريده فقط الصبر عليها حتى تسترد نفسها بعد أن تعرضت لزلزال ناعم كالماس وقاسي كالماس.
عادت مرتبكة وأدرك زوجها الفرق والاختلاف.. وافترقا.
همت بالزواج من الثري الذي كاد أن ينجح بالفوز بها كزوجة ليكتمل ثراءه الحقيقي، ثم دارت القصة في نهايتها ليستردها زوجها، ولكن لا يهم الختام والتفاصيل، المهم أن القصة تمر على كل أحاسيس المشاهد فلا يعود كما كان قبل مشاهدة الفيلم.
يرتبك يحتار يهتز يُصدم يحاول لملمة أفكاره ومشاعره وقِيَمه.. ويتأمل.
هذه هي وظيفة الخيال.. إطلاق أفكار بلا حدود وبلا رقابة.. ودراسة أثرها.. والتعلم، حتى أني تساءلت عن مدى انطلاق الخيال الأمريكي، وهل يقدر على عكس المثال بأن يجعل الثري «امرأة» تتقدم للزوج الفقير بعرض غير لائق!
***
ما الفرق بين من عقد هذه الصفقة بإرادته وبين من أجبر عليها.. قد يقول المصري إنَّ المثال عندنا أخف قيميا لأنَّ الاغتصاب رغما عن الزوج، ولكن ألا نرى أن هناك قصصا حقيقية سمح فيها المجتمع بهذا الاغتصاب والقهر؟.. المجتمع عندنا أخرس.. سلبي.. يخاف على لقمة العيش.
أتذكر قصة تحكى عن فنانة مصرية جمالها ملائكي، تألقت وأصبحت نجمة واعدة، ثم فجأة توارت وكاد أن ينساها الناس حتى توفيت، علم الجميع من زملائها أنها قهرت بسبب رفضها أن تخون زوجها مقابل فتح باب المال والشهرة على مصراعيه لها، رفضت ونالت العقاب واغتيلت فنيا، ولم تجد من زملائها من يقف بجانبها، شعرت أنها في جزيرة معزولة، قال لها من حاول إغرائها: «لماذا لم تفعلي مثل الآخرين»، في هذه القصة تلميح باللون الفاقع إلى أنَّ هناك من قبلت ثمن الاستمرار في عالم الشهرة، وهنا يظهر المجتمع الجبان الذي يترك الزميل يُقهر أمامهم وحده، ويختاروا الصمت كي يحافظوا على لقمة العيش.
هذا مجتمعنا.. لا يغتصب الفرد وحده إلا ومعه مشاركة من بقية المحيط بالصمت الرهيب كما أغنية «عبد الحليم حافظ».
***
في القصة، رغم فظاعتها وصدامها مع قيمنا وخيالنا، إلا أنها تحكي اتفاق، بإرادة حرة، «اتفاق نبيل أو شيطاني لا يهم، المهم الإرادة حرة، كل شيء فوق السطح، هذه هي الحرية، نختار النبل أو الأبلسة، الخير أو الشر، الضعف أو القوة، الإيمان أو الكفر» .. ورغم ذلك لا يعد ذلك مدحا لهم، فكثيرا ما تقهر هذه الإرادة عن بعد كما يفعل جهاز التحكم عن بعد في الأجهزة الحديثة.
نحتاج أن نتأمل ونقارن ونخرج بالعبرة.. فالقصة ليست قصة رجل طمع في زوجة آخر.. بل وراءها علامات استفهام بلا حدود.. وفي السؤال سبع فوائد.
