اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيغ كيرشنر
محمد محمود غدية

ابتسامتها تسقي جفاف الروح، سكرها زيادة يتحاشاها مرضى السكر، الصبح يستمد من وجهها الإشراق والضياء، غمرت كل من حولها بالحنان، وغرست الزهور في أرض لا ينفع فيها الزرع فأينعت وأزهرت، لها قدرة مدهشة على امتصاص التعب والقلق، والربت بحنو بالغ على المشاعر، يغالب دمعة حبيسة أصرت على السقوط، في غيابها زحفت الظلمة وتمددت واكتسحت الروح، يشعر بتعاسة لا حد لها، لم يعد يرى في عينيها بحارا من اللؤلؤ، وشموسا من الدفء، يتلفت حوله يلمس جفاف الأشياء بجانبه.
هو أكبر الأبناء والأكثر التصاقا بحضنها، كان حين يبلله المطر، يلجأ إلى الاختفاء تحت معطفها، تربت عليه تهدهده بين ارتعاش الشفاه واصطكاك الأسنان، لا يخلد إلى النوم إلا اذا مدته بالدفء، ما الذي يجعل الحزن عاجزا عن الرحيل، لا شيء هنا سوى بضع آيات يحفظها عن ظهر قلب، تهدئ من روع الغياب، عطرها الممزوج بالزعتر والمسك يخترق كل ما يلقاه ويصرعه، مشوق للدفء من كفيها، وللضياء من عينيها، كيف تقنع روح بالعودة بعد رحيلها؟
مارست الموت وحدها، دون أن تشرك أحدا معها، عام كامل وبضعة شهور وهي تتوجع وتتألم وتنتحب في صمت، قالت للأولاد: أنها وجدت عملا يتناسب مع خبرتها في الترجمة لشغل الفراغ الذي تعيشه بعد رحيل زوجها، تستقبل الحياة بروح طيبة مرحة، تحرص كل الحرص ألا تدمع عيناها، حتى لا يراها الأبناء في انكسارها، وهى التي منحتهم الأجنحة القوية المعينة على التحليق، يموت منها جزء كل يوم، كل شيء من حولها باهت تحيط به هالة من ضباب مصغر منذ أن تسلل إليها ذلك المرض البغيض الذي لا شفاء منه. اخترعت العمل الذي لاوجود له، حتى لا يسأل الأولاد أين تذهب كل صباح..؟
تتمدد على سرير الوجع في المستشفى، تأخذ جرعة الكيميائي الذي يمنحها بعض حياة، سقط منها الشعر الذي أخفته خلف باروكة الشعر المستعار، والتي لا تعوض أبدا الفقد.
لم تمتد يدها لنقود الأولاد التي تركها الزوج بعد رحيله وصانت الأمانة، باعت الخاتم وأساور الذهب والعقد هدية عيد زواجها، واستبدلتهم بذهب صيني رخيص، حتى لا يستشعر الأبناء غياب الذهب، تضع علي وجهها كمية من المساحيق، لتخفي شحوب الوجه يخذلها الموت، ولاياتي سريعا كما توقعت، هي أشياء لا يدركها المرء
تفرد أجنحتها، تأخذ الأبناء والأحفاد في حضنها، ترتاح لدفء مشاعرهم تكبح دموعها، كيف لروح نابضة أن تمارس الموت؟
لديها طاقة من الصبر والتجلد لا يقدر عليها أحد، سنوات عمرها يسقطها المرض كأوراق خريف ذابل، رائحة ضفائرها موغلة بذاكرة الأبناء، لم تقدر الجدران الصماء وصرير أبوابها الموصدة حجب تقاسيم وجهها مضيئة وباهرة نبيلة وأصيلة حتى وهى تموت.
تركت أرقام الهاتف ووصية أودعتها أمانات المستشفى، تعتذر فيها عما أصابها من مرض، واختراعها عمل لا وجود له، لتجد مبررا للذهاب كل يوم إلى المستشفى، ثروة والدهم مودعة بالكامل بأحد البنوك، ميراثا شرعيا عندما يجرح أصبع في اليد يصرخ المتألم قائلا: أخ! وهي تعني النجدة بالأخ، الترابط والحب هو الأصلح في تقوية العلاقات.
فاتورة المستشفى سددت بالكامل من مدخراتها وذهبها، تعتذر لأنها لم تتمكن من إبقائها لهم، كابدت الآلام وحدها، لم تجهد الأبناء في رحلة مرضها الذي أخفته طويلا عنهم، يرتشفون الهم كل يوم وهم يغلقون الباب دونها.
في غيابها غابت الشمس وحجبتها غيوم ثقيلة، لا يدرون بأي اللغات يبكونها، وموتها بدد كل اللغات.