اللوحة: الفنان الفرنسي كلود مونيه
هناء غمراوي

منذ قدومي الى هذه المدينة، وإقامتي فيها تزامناً مع حلول جائحة كورونا العام، 2020 كان انحيازي دائماً لفصل الخريف، كان هو سيد الفصول بالنسبة لي هنا.
ولست هنا بمعرض الكلام عن هذا الفصل فقد افردت له في الجزء الأول من الكتاب ثلاثة نصوص طويلة، اثنان منها عن خريف نيويورك في الجبال وفي مدينة بوسطن، والثالث عن خريف مدينة مونتريال التي زرتها نهاية العام 2022.
عدت من لبنان، بداية الخريف بمزاج سيئ يصحبه التوتر والترقب والهلع بعد الحرب الذي تعرض لها البلد، وطال القصف أماكن كثيرة من العاصمة بيروت. وصار المطار مهدداً بالإقفال بين يوم وآخر.
بعد وصولي الى نيويورك بأقل من شهر، وكعادتنا في كل خريف قمنا برحلة الى الجبل لمدة يومين مع بعض الأصدقاء؛ ولم ينطبع داخلي أي شعور من هذه الرحلة بخلاف رحلاتنا السابقة.
تابعت حياتي الروتينية دون أي تغيير يذكر. فقد واظبت على زيارة مركز الرعاية ليومين في الأسبوع كان أحدهما كان مخصصاً للرسم.
مر الشتآء عليّ ثقيلاً هذه السنة، فقد جادت علينا الطبيعة بعواصف ثلجية انخفضت معها الحرارة الى درجات متدنية جداً مقارنة بما سبقها من السنوات. لم يكن لدي أي مشكلة مع الطقس فيما مضى من اقامتي في نيويورك فقد احببت الثلج الأبيض، وبخاصة عندما كان يغطي الأسطح والطرقات ببساط ناصع البياض، ويتناثر كالقطن المندوف على أغصان الأشجار التي تعرت من أوراقها تماماً.
نعم، مشكلتي لم تكن مع الطقس ولم تكن متعلقة بأي عوامل خارجية. مشكلتي كانت تنبع من داخلي. لقد تم تدريسنا في الصغر لبعض الأمثال السائرة والتي تحولت مع الزمن الى حكم نرددها في كل مناسبة. ومنها مثل يقول؛ “العقل السليم في الجسم السليم”. لم ينتبه أحد لسلامة القلب، فالجسم السليم يلزمه قلب سليم (ولا أعني هنا بسلامة القلب خلوه من الأمراض ليكون بكامل صحته)!
لم يكن قلبي سليماً هذا الشتاء؛ فقد تعرض لأكثر من صدمة هزته في العمق.
لأول مرة أعود من لبنان بحماس فاتر وقلب حزين.
رحيل شقيقي خالد المفاجئ السنة الماضية ترك شرخاً عميقاً في نفسي، عانيت منه طوال أشهر الشتاء الباردة؛ حيث كنت افتقد مكالماته الودية، ودعواته المتكررة لي لزيارته في أوكلاهوما.
نعم مرّ هذا الشتاء ثقيلاً وحزيناً وانعكس ذلك على صحتي النفسية والجسدية؛ فقد عانيت من أكثر من وعكة صحية الزمتني الفراش…
أطل شهر نيسان وبدأت الطبيعة تنفض عنها ثوب الشتاء.. بدأت بعض الوريقات الخضراء تتبرعم بخجل على الأغصان وتتسابق فيما بينها في النمو والاخضرار…
يتأخر الربيع هنا عن مناطق حوض المتوسط ولا يكتمل اخضرار الأشجار وتفتح الزهور على أنواعها الا بداية شهر أيار.
هذه السنة كان احتفائي بقدوم الربيع مختلفاًً، الخضرة المنتشرة في كل مكان استطاعت أن تدخل القليل من البهجة الى قلبي الحزين.
هنا في دغلستون وفي كل مكان في نيويورك انت لست مجبراً ان تخرج من المدينة الى الغابات لتمتع النظر بجمال الأشجار وخضرتها اليانعة. فالأشجار هنا منتشرة في كل مكان وقد لا يخلو شارع منها، حتى في منهاتن نفسها والتي تعتبر مدينة المال والأعمال فإننا نلاحظ أحياناً ان تشابك الأشجار على الجانبين في بعض شوارعها بحولها الى ملاجئ لمئات العصافير والتي لا تكف عن الشدو والزقزقة طوال النهار …
في دغلستون كما في استوريا تتزين مداخل البيوت بحدائق صغيرة تحوي أنواعاً مختلفة من الزهور. ويهتم السكان هنا في العناية بحدائقهم
بداية كل ربيع بعد ان يكون الصقيع وتساقط الثلج
الذي يستمر احيانا حتى منتصف آذار/ مارس قد أتلفها تماماً. لذلك ما ان تهدأ الطبيعة وتعتدل الحرارة، حتى يهرع معظم السكان الى محلات بيع الشتول والأزهار لشراء الشتلات التي ستزهو بها حدائقهم من جديد.
وقد شاركت هذه السنة في استقبال الربيع على طريقتهم. وكوني اسكن مع ابنتي في شقة فقد اقترحت عليّ ان نحول الشرفة الى حديقة صغيرة نزرع فيها ما طاب لنا …
وافقت على الفكرة ورافقتها الى المتجر لشراء بعض الشتول ولوازم زراعتها. ولكنني اكتفيت بزراعة بعض الزهور، ولم أنسى زراعة الحبق الذي تذكرني رائحته بأمي وبالكبة اللبنانية. وكذلك غرست بعض شتلات البندورة والفلفل الأخضر ولا أعرف هل سيكون لي نصيب أن أقطف من ثمارها، بعد أن حبست هذه الشتلات في عبوات بلاستيكية وهي تفضل طبعاً أن تمد جذورها في الأرض براحة وسلاسة…. سأكتفي بأن أسقيها وأعتني بها، ثم أراقب نموها يوماً بعد يوم فينمو معها الأمل وتخضر الأمنيات.