اللوحة: «أحمد شوقي» بريشة الفنانة الفلسطينية زلفة السعدي
د. عوض الغباري

أحمد شوقي من أهم شعراء العصر الحديث، وما زال شعره يؤثِّر فينا، كقوله من شعره الوطني الذي تتردد ألحانه معبرة عن حب مصر:
وطني لَوْ شُغِلتُ بالخُلْد عنه
نَازَعَتْنى إليه فى الخُلْد نفسى
وقد غنى لمصر؛ الأهرام، وأبى الهول، وتوت عنخ آمون، ووادى النيل والأزهر وعمال مصر وعلمائها وأدبائها وساستها وفنانيها، أغنيات خالدة؛ حلم فيها بنهوض مصر على دعائم العلم والإيمان والأخلاق، أليس هو القائل:
وإنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهم ذَهَبُوا
وقد فاضت شاعرية شوقى، وهو مجدد الشعر الحديث، بحبه لمصر، فافتتح ديوانه بقصيدة عظيمة فى تاريخ مصر؛ عنوانها: “كبار الحوادث فى وادى النيل”؛ مطلعها:
همَّت الفُلْكُ واحْتَوَاها المَاءُ
وَحَدَاها بِمَنْ تُقِلُّ الرَّجَاءُ
وهى قصيدة فى ملحمة تاريخ مصر العريق قديما وحديثا.
ومع الشعر العبقرى لأحمد شوقى فى حضارة مصر نجد أنه شاعر الحياة العربية بحضارتها الإسلامية، على حد تعبير “محمد حسين هيكل” فى تقديمه لديوان أمير الشعراء أحمد شوقى المعنون بـ “الشوقيات”. فهو شاعر مصر والعروبة والإسلام، وكم تغنّت قصائده بربى العروبة، وحضارة الإسلام.
والشعر الدينى لأحمد شوقى بالغ الأثر فى النفس، مثل الهمزية النبوية:
وُلِد الهُدَى فالكائناتُ ضِياءُ
وفَمُ الزمان تَبَسُّمٌ وثَنَاءُ
وقصيدة نهج البردة، ومطلعها:
رِيم على القاعِ بين البَان والعَلَمِ
أَحَلَّ سَفْكَ دَمىِ فى الأَشْهُرِ الحُرُمِ
وقصيدة فى ذكرى مولد الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومطلعها:
سَلُوا قَلبى غَداةَ سلا وَثَابَا
لَعَلَّ على الجَمَالِ له عِتَابا
وقصيدته، فى الحج، المعروفة بـ “إلى عرفات الله”، ومطلعها:
إلِى عَرَفَاتِ اللهِ يا خَيْرَ زَائِرٍ
عَليْكَ سَلامُ اللهِ فَى عَرفَاتِ
إلى مثل هذه القصائد العظيمة العامرة بالإيمان والجمال والجلال.
وينطق شعر شوقى بالحكمة التى يصوغها فى شعره دالة على تجربة إنسانية عميقة، من مثل قوله، وهو فى معرض الغزل:
خَدَعوها بِقَوْلِهم حَسْنَاءُ
والغَوانى يَغُرُّهُن الثَّنَاءُ
ومن مثل قوله، فى معرض تكريم المُعَلِّم:
قُمْ للمُعَلِّم وَفِّهِ التَّبْجِيلا
كَادَ المُعَلِّم أن يكُون رَسُولا
ولكن أحمد شوقى الشاعر المُلهَم المتمسك بقضايا وطنه ودينه لا ينسى نصيبه من الدنيا، وهو – كالمصريين- يُقبل على الحياة، وإن اغتنى بحب الدين والإيمان. فهو – بروحه الشعرية الوثّابة – رقيق فى غزله، بارع فى وصفه، يحلِّق فى سماء الإبداع بصور شعرية مبتكرة، ولغة شعرية رائعة تتمثل فى قصيدة، مطلعها:
مَالَ واحتَجَبْ
وادّعَى الغَضَبْ
ويجيد أحمد شوقى تصوير الطبيعة، ويمزج بينها وبين فنه الشعرى، وبينها وبين الفنون الأخرى بأنواعها.
ويستمد من ثقافته العربية الأصيلة، ومن ثقافته الغربية الحديثة زادا معرفيا موسوعيا يرفد به شعره الرائع.
ومن غزلياته الرقيقة قصيدته التى مطلعها:
مُضْنَاكَ جَفَاه مَرْقَدُه
وَبكَاه وَرَحّمَ عُوَّدُهُ
فالحب والطبيعة والفن من عوالم شعر أحمد شوقى؛ تجعله شاعرا مصريا أصيلا فى حبه للدنيا مع حبه للدين، ولا يصطدم العَالَمان، فَهُما تجسيد للشخصية المصرية فى بُعدها الروحى الإيمانى، وفى بعدها الدنيوى، وما يمثله هذا البعد من حب للحياة، وإقبال على لذَّاتها، إضافة إلى الظَرْف والفكاهة، وقد حفل بها ديوان شوقى. كذلك فشوقى رائد للمسرحية الشعرية فى العصر الحديث، ورائد لأدب الأطفال، وشعره للأطفال حافل بالروح العبقرية فى خطاب الطفل، والأثر فى عقله وقلبه، وإمتاعه. كذلك مسرحه الشعرى دليل على نبوغه وابتكاره وجمعه بين فن المسرح وفن الشعر فى علامة أصيلة على عبقريته، خاصة فى مسرحية “كليوباترا”، وفى مسرحية “مجنون ليلى”، وغيرها من مسرحياته الشعرية الرائعة.
وحكاية أمير الشعراء أحمد شوقى مع “ابن زيدون”، ومع الأندلس مثيرة، فعندما صدرت الطبعة الأولى من ديوان ابن زيدون فى مصر، رحَّب به أحمد شوقى فى قصيدة يقول منها:
يا ابْنَ زَيْدُونَ مرحبا
قَد أَطَلْتَ التَّغَيُّبا
إنَّ ديوانَك الذى
ظَلَّ سِرّا مُحَجّبا
يَشْتَكِى اليُتْمَ دُرُّه
ويُقَاسى التَغَرُّبا
وفى القصيدة مدح رائع لشعر ابن زيدون.
أما “الأندلس” فحاضرة فى وجدان أحمد شوقى حيث قدَّم لقصيدته:
اختلافُ النَّهار واللَّيل يُنْسِى
اذْكُرا لى الصِّبا، وأَيّامَ أُنْسِى
بنص نثرى رائع، ذكر فيه رحلته إلى الأندلس.
وهذا النص، وهذه القصيدة السينية (قافيتها السين) من التجليات الواضحة التى تؤكد عمق الصلة بين الآداب العربية فى أقاليمها المختلفة.
فالقصيدة السينية لأحمد شوقى حنين وشوق إلى مصر، وقد نُفِى الشاعر عنها، فاستدعى سينية البحترى:
صُنْتُ نفسى عَمّا يُدَنِّس نَفسِى
وتَرَفَّعْتُ عن جدا كل جبس
التى صوَّر فيها إيوان كسرى، فى معرض رثائه للخليفة العباسى المتوكل عند مقتله.
إن تصوير “أحمد شوقى” لرحلته إلى الأندلس فى مقدمته النثرية لقصيدته السينية نابض بالحب لها، والشوق إليها، لأنها ذكَّرتْه – فى منفاه – بمصر؛ ذكّرَتْه معاهدها الجميلة بمعاهده الجميلة فى وطنه؛ مصر، كما ذكَّرتْه آثارها بالحضارة العربية التى زالت، وبقيت آثارها بالأندلس، فاستدعى خياله زوال ملك كسرى، والنهاية المأسوية للخليفة المتوكل، وزوال ملكه.
يقول “أحمد شوقى” من هذه المقدمة النثرية: “وإذا الشوق إلى الأندلس أَغْلَب، والنفس بحق زيارته أَطْلَب… فَبَلَغَتْ النفس بمرآه الأَرَب، واكْتَحَلت العين فى ثراه بآثار العرب، وإنها لشتى المواقع، متفرقة المطالع، فى ذلك الفلك الجامع. يسرى زائرها من حرم إلى حرم. كَمَن يُمسى بالكرنك، ويُصبح بالهرم”. أما أندلسية أحمد شوقى، وهى قصيدته التى مطلعها:
يانَائِحَ الطَّلْح أَشباهٌ عَوَادِينا
نَشْجَى لِوَادِيكَ، أَمْ نَأْسَى لِوَادِينا؟
فهى القصيدة التى عارض بها قصيدة ابن “زيدون” النونية، فى لقاء أدبى رائع بين عملاقين؛ ابن زيدون الأندلسى، وأحمد شوقى المصرى، مما يجعلنا فى قلب تفاعل نصى يتداخل فيه الجديد مع القديم فى حوار نصى خلاق، وتفاعل أدبى دفاق.
إن للشاعر الجديد تراثا وحضارة تؤثِّر فى إبداعه، وقد اختار “أحمد شوقى” نونية ابن زيدون ليعارضها، لأنها مثلت له لحظة من الماضى؛ مواكبة للحظة من الحاضر. فقد أبدع ابن زيدون قصيدته فى حال البعد عن الحبيبة، وكذلك أبدع “شوقى” قصيدته فى منفاه بعيدا عن الحبيبة مصر.
وقد تحالفت القصيدتان فى بث شعور بالأسى والشوق والحنين إلى الذكريات الجميلة فى رحاب المحبوبة / الوطن.
استوحى “شوقى” فى نونيته هذه المشاعر التى تفيض أسى وحسرة وبكاء وشقاء فى نونية ابن زيدون لأنها صادفت فى نفس أحمد شوقى ذات المشاعر التى صدمته لنفيه وبعده عن وطنه وأهله، فوجد فى ابن زيدون وقصيدته الشعور نفسه، وتجاوب الفن الشعرى بينهما ليصل الجديد بالقديم، ويجعل الصلة بينهما عميقة مؤثِّرة، إذ إن لاختيار شاعر حديث قصيدة شاعر قديم موضوعا للتناص هدفا جماليا وحضاريا وثقافيا وإنسانيا.
و”المعارضة” فى أبسط تعريفاتها، اتفاق بين قصيدتين فى القافية، لكنها، فى إبداع الشعراء الأصلاء، لا تعنى تقليد شاعر جديد لشاعر قديم، أو تقليد قصيدة لاحقة لقصيدة سابقة.
فالمعارضة لا تنفى الإبداع الخاص للشاعر الجديد الذى اقتفى آثار شاعر قديم، خاصة إذا كان شاعرا أصيلا كأحمد شوقى، الذى استطاع فى قصيدته النونية أن يحافظ على شخصيته الشعرية المتميزة مع دورانه فى فلك ابن زيدون.
عبَّر شوقى، فى شعره، عن شخصيته المصرية الأصيلة فى إطارها العربى الإسلامى، واتصال الشعر العربى فى نهضته الحديثة بالآمال الوطنية، وفى التحرر والنهوض اعتمادا على حضارة مصرية عربية إسلامية تمثلها شخصية أحمد شوقى مصريا معتدا بعروبته وبدينه وبمصير أمته التى يرتبط حاضرها المأمول بماضيها العريق، استشرافا لغد أفضل، ومستقبل أجمل.
الشخصية المصرية يتميز صاحبها بحب الدين وحب الدنيا، وقد كان أحمد شوقى ممثلا لتلك الشخصية فى تصويره العميق للمشاعر الدينية، خاصة ما يتعلق منها بحب الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومدائح أحمد شوقى للرسول صلى الله عليه وسلم من أروع شعره، وهى تمثل ظاهرة فنية متميزة فى هذا الشعر، كذلك فأحمد شوقى شاعر يترنم بالحب، وبالإقبال على الحياة، وشعره الغزلى رقيق رقة الشعر المصرى الغزلى الذى يعد من أروع الشعر العربى فى بابه. والغزل فى الشعر المصرى متصل، فى عاطفته السامية، بشعر الحب الإلهى الذى جسَّده ابن الفارض الشاعر الصوفى المصرى الذى كان شعره الصوفى الرقيق تتويجا لأثر مصر فى التصوف الإسلامى الذى أسسه ذو النون المصرى.
وقد قال أحد الفلاسفة إنَّ من عذبت مياه شربهم لطفت كلمات شفاههم، فى إشارة إلى أثر عذوبة ماء النيل فى عذوبة شعر الغزل المصرى.
وأحمد شوقى سليل الشعراء المصريين الذين قدموا أروع القصائد الغزلية فى ديوان الشعر العربى مثل ابن النبيه المصرى الذى غنَّت له أم كلثوم قصيدتين، إحداهما:
أفديه إن حَفِظ الهوى أو ضيَّعا
ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا
والأخرى:
أمانا أيها القمر المطل
فمن جفنيك أسياف تُسلُّ
ومن القصائد الدالة على الشخصية المتفردة لأحمد شوقى فى شعره الغزلى قصيدة:
مضناك جفاه مرقده
وبكاه ورحَّم عُوَّدُه
كما أنَّ قصائد شوقى فى المديح النبوى لا نظير لها عند شاعر حديث، ومن أجملها “نهج البردة” ومطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمى فى الأشهر الحُرُم
وأحمد شوقى هو الشاعر الذى عبَّر عن تطلع مصر إلى النهضة فى عصرها الحديث، وشعره الوطنى حافل بالصدق فى حب مصر، عامر بالإحساس العميق بآلام المصريين وآمالهم. ومن أروع شعره فى تاريخنا المصرى ملحمته التاريخية التى صَدَّر بها ديوانه، وهى قصيدة: “كبار الحوادث فى وادى النيل”، ومن أبدع قصائده فى تاريخ شعرنا المصرى “قصيدة النيل” التى يقول فى مطلعها:
من أى عهد فى القرى تتدفق
وبأى كف فى المدائن تُغدق
وأحمد شوقى شاعر عبقرى جدَّد الشعر العربى الحديث، وقد أقام تجديده على أساس من التأثر بالأدب العربى القديم فى أرقى إبداعه، وعلى أساس من دراسة الأدب الغربى، والتأثر بكبار الأدباء الغربيين، والانفتاح على آفاق جديدة من الفكر الغربى والإبداع الحديث المختلف عن الأدب العربى مما جعل شوقى يبتكر من الشعر، خاصة المسرحى منه، ما يضيف جديدا إلى الأدب العربى الحديث. وقد درس الأدب فى فرنسا وتذوقه، ووقف على أساليبه الحديثة، خاصة فى المسرح. وقد أبدع شوقى فى إطار تحليقه فى فضاء الشعر العربى الأصيل، والتقى مع شعراء العرب الكبار كالمتنبى وابن زيدون والبوصيرى وغيرهم، ولكنه لم يكن مقلدا لهم فى معارضاته، بل كان مبدعا مبتكرا فى إهاب تناصه مع هؤلاء الشعراء خاصة فى نهج البردة التى التقى فيها بالبوصيرى فى برديته المشهورة التى تعد أساسا فنيا للمديح النبوى فى الشعر العربى، ومطلعها:
أمن تذكر جيرانٍ بذى سَلَم
مَزَجْتَ دمعا جرى من مُقلةٍ بدم
وفى التقائه بالبوصيرى، أيضا، فى القصيدة الهمزية ومطلعها عند شوقى:
وُلِد الهدى فالكائنات ضياءُ
وفم الزمان تبسم وثناء
ومطلع همزية البوصيرى:
كيف ترقى رقيك الأنبياء
يا سماءً ما طاوَلَتْها سماء
كذلك تناصه العبقرى مع ابن زيدون فى قصيدته:
أضحى التنائى بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بقصيدته الرائعة:
يا نائح الطلح أشباهٌ عوادينا
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
ولقاؤه مع البحترى فى قصيدته التى يقول فيها بيته الشهير:
وطنى لوشُغِلْت بالخُلد عنه
نازعتنى إليه فى الخلد نفسى
وقصيدة البحترى مطلعها:
صُنْتُ نفسى عما يُدَنِّس نفسى
وترفّعتُ عن جَدَا كُلِّ جِبْس
وقصيدة شوقى مطلعها:
اختلاف النهار والليل يُنسى
اذكرا لى الصِّبا وأيامَ أُنسى
أما “طه وادى” فيعد أحمد شوقى شاعر النهضة، وأمَّا “شوقى ضيف” فيعده شاعر الشعب المصرى “بل شاعر الشعوب العربية كلها، ينبض قلبه بأحلامها وآمالها”.
وموسيقى شعر شوقى آية من آيات عبقريته الشعرية، كما كانت حكمته دليلا على ثقافته الواسعة الأصيلة، عربية وغربية، وتجاربه الإنسانية الصادقة العميقة، ومثالها قوله الشهير:
دقاتُ قلب المرءِ قائلةٌ له
إن الحياةَ دقائق وثوانى
أما مكوِّنات فن شوقى الشعرى فتبرز فى الموسيقى والخيال والعاطفة القوية، متمثلة فى شعره الغنائى، خاصة الغزلى والوطنى والدينى.
وآية ذلك فى شعره قصيدة النيل.
وشاعرية شوقى ارتبطت بتجديده للشعر العربى، وإخلاصه لقضايا وطنه، وحبه لمصر، وتراث شوقى بروافده المتعددة “يعكس فلسفة الإنسان العربى فى العصر الحديث”.
وقد بيَّن شوقى ضيف أنَّ “شوقى” قد صاغ قصائده على طراز صياغة المتنبى فى الشكل العام لبناء قصائده بما فيها من حِكَم ومثالية أخلاقية.
وتتجلى عبقرية شوقى فى توجهه الأصيل إلى جمهور الشعب المصرى بقصائد تتلاحم مع وجدانه وعاطفته الوطنية والدينية، انظر، مثلا، إلى قوله:
فلم أرَ غير حُكم الله حُكما
ولم أر دون بابِ الله بابا
ودلالتها على هذا الإيمان العميق الذى يجمع شوقى وشعره بالمتلقى الذى يستقبل مثل هذا الشعر فى إجلال وإكبار، مما جعل شوقى ضيف يرى فى شعره غِناء للعواطف الإسلامية التى يستشعرها المسلمون “لم يُتَح لشاعر امتلأ بالعواطف الدينية الإسلامية ممن عاصروه أن يبلغ مبلغه فيه، أو يتفوق تفوقه”.
كذلك تتجلى براعة شوقى فى التعبير عن العواطف الوطنية المصرية فى أشعاره، ويتجلى حسه العروبى فى شعره فى كثير من القصائد التى يشدو فيها بحضارة العرب، خاصة إشادته بدمشق فى قصيدته:
سلامٌ من صَبَا بردَى أرقُّ
ودَمْعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
يحلِّق أحمد شوقى فى الآفاق الإبداعية الرحبة لشاعر عربى قديم، فيتناص معه.
ومطلع قصيدة الشاعر القديم:
يا ليلُ الصَبُّ متى غَدُهُ
أقيامُ السَّاعةِ موعده
وأحمد شوقى شاعر عبقرى يبتكر شعره فى إهاب تداخله وتفاعله مع الشعر القديم الذى يستشف جماله الأسلوبى، وإيقاعه الموسيقى، وصوره الفنية، وبناءه وصياغته العربية الأصيلة، ويجعلها وسيلة وغاية لإبداعه الجديد.
ومطلع قصيدة أحمد شوقى:
مُضْنَاكَ جفاه مرقده
وبكاه ورحم عُوَّدُه
دال على ما أشرنا إليه من براعته الفائقة فى اختيار النص الشعرى القديم مثالا أدبيا رفيعا يحِّلق فى سماء فنه متحقِّقا بجمالياته، متحررا من سطوة تقليده، منطلقا إلى التغريد فى آفاق عالمه الشعرى الشعورى الخاص الذى تكمن المفارقة فيه فى اشتراكه مع النص المُتَنَاص به، والاختلاف عنه فى آن، وهذا هو جوهر مفارقة التناص، ومحل إمتاعه.
إيقاع القصيدة راقص، والغزل فيها رائع، وقد أجاد شوقى فى تعبيره عن شخصيته الفنية من خلالها.
وقد أمتعنا شوقى بهذه القصيدة الغزلية الرائعة، كما أمتعنا شدو المطرب العظيم “محمد عبد الوهاب” بأبياتها.
وقد أشاد “طه حسين” بأحمد شوقى، مع انتقاده له، منصفا له، بقوله إنه “ردَّ إلى الشعر العربى نضرته وبهاءه القديم، ومهَّد خير تمهيد لنهضته الحديثة فى مصر، بل لزعامتها وقيادتها لشعراء العرب فى الأقطار الإسلامية المختلفة”.
وميَّز “شوقى ضيف” شخصيته الشعرية باختلافه عن غيره من الشعراء فى الموسيقى، والتصوير الحالم، والتغنى بالشعر بروح وجهد وعناية فنية ممتازة.
وقد صدق حافظ إبراهيم فى مبايعته لأحمد شوقى أميرا للشعراء بقوله:
بلابل وادى النيلِ بالمشرق اسجعى
بشعر أمير الدولتين ورجِّعى
أميرَ القوافى قد أتيتُ مبايعا
وهذى وفودُ الشرق قد بايَعَت معى
وقد استحق أحمد شوقى أن يكون أميرا للشعر العربى الحديث لفرادته الشعرية، ودوره الكبير فى نهضته وريادته للمسرح الشعرى.
كذلك استطاع بشاعريته العبقرية أن ينهل من التراث العربى وأن يطَّلع على الثقافة الغربية ويمزج بينهما فى نسيج إبداعه الذى صاغ به مفردات التطور فى الأدب العربى.
أحمد شوقي (1868- 1932)، كاتب وشاعر مصري، يعد أشهرَ شعراء العربية في العصر الحديث، لقِّب بـ «أمير الشعراء».