المرحلة الزرقاء.. مطهر الحزن والإلهام عند بيكاسو

المرحلة الزرقاء.. مطهر الحزن والإلهام عند بيكاسو

جولييت المصري

اللوحة: الفنان الإسباني بابلو بيكاسو

تظل “المرحلة الزرقاء” (1901-1904) علامة فارقة في مسيرة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو الفنية، وتعد فترة محورية في حياته الفنية الطويلة والمتنوعة. خلال هذه الفترة القصيرة نسبيًا، انغمس الفنان الشاب في عالم من الألوان الباردة، حيث سيطر الأزرق بكل تدرجاته على لوحاته. لم يكن هذا الاختيار اللوني مجرد تفضيل جمالي، بل كان بمثابة لغة بصرية غنية بالدلالات، تعكس حالة نفسية عميقة ومعقدة وتكشف جوانب مظلمة من الوجود الإنساني.

في بدايات القرن العشرين، كان اللون الأزرق يحمل في طياته شحنات عاطفية وثقافية واجتماعية قوية، وارتبط تقليديًا بالحزن والكآبة والوحدة والفقر، وغالبًا ما كان يمثل الحداد والفقد، وقد تركت وفاة صديق بيكاسو المقرب، الفنان كارلوس كاساجيماس، عام 1901 جرحا غائرا عميقا ومؤلما في نفسه، وقد يُنظر إلى هذه المأساة الشخصية على أنها محفز رئيسي لانغماس بيكاسو في هذه المرحلة التي سيطر فيها اللون الأزرق على لوحاته. لقد كان الأزرق بمثابة صدى بصري لحزنه العميق وشعوره بالوحدة والفراغ الذي خلفه رحيل صديقه، ويبدو أن هذا الحزن الشخصي قد تماهى مع المناخ العام الذي ساد باريس في تلك الفترة، فدلالة الأزرق في أعمال بيكاسو تتجاوز مجرد التعبير عن ألم شخصي، لقد كان فنانًا حساسًا يستشعر ما يجري في عصره من تحولات، وقد تأثر بشدة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي كانت تسود باريس في مطلع القرن العشرين، حيث الفقر المدقع، واليأس المنتشر بين الطبقات العاملة والمهمشة، والعزلة التي يعاني منها الكثيرون. 

كل ذلك وجد صداه في لوحات المرحلة الزرقاء، فنراها تتميز بشخصيات نحيلة وشاحبة، تلفها مسحة من الحزن والانطواء. غالبًا ما تكون هذه الشخصيات من الفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع كالمتسولين الذين يكافحون من أجل البقاء، والعميان الذين يعيشون في عالمهم الخاص المظلم، والسجناء الذين يقضون أيامهم خلف القضبان، والأمهات الثكالى اللائي فقدن أبنائهن، يغلف هذه الشخصيات جو من الكآبة والانطواء، وتعكس ملامحهم الحزن العميق واليأس. الأزرق هنا يعزز هذا الشعور، فهو لون بارد يوحي بالبعد والجمود واللامبالاة.. 

ويتمثل ذلك في لوحات مثل “عازف الجيتار العجوز”، وهي عبارة عن رجل مسن، يندمج بجسده النحيل مع جيتار، يرتدي ملابس رثة، شاحب الوجه وأعمى، أو مغمض العينين، يبدو وكأنه يعزف على جيتاره من دون إيلاء اهتمام بما حوله، وكأن العالم لم يعد يعنيه في شيء، إنه شكل من أشكال الانكسار والانكفاء نحو الذات، وهي الحالة التي غالباً ما يعانيها المبدعون نتيجة معاناتهم النفسية والمادية، درجات اللون الأزرق المحيطة بالرجل موضوع اللوحة تجسد عزلته وعجزه ومعاناته الصامتة. الأزرق ليس مجرد خلفية هنا، بل هو جزء لا يتجزأ من الحالة النفسية للشخصية. ويتفق كثير من النقاد أن لوحة بيكاسو “العجوز الكفيف والغيتار”، واحدة من أهم الأعمال الفنية التي تصف بشكل بارع حالة التدهور النفسي والمعنوي، وأنها من اللوحات التي تعكس عبقرية بيكاسو وقدرته على النفاذ إلي داخل النفس البشرية وتصويرها.

في لوحة “وجبة الفقير الأعمى”، نرى رجلاً أعمى يجلس على مائدة بسيطة يتحسس إبريق ماء وبيده قطعة خبز جافة، وهنا يهيمن الأزرق البارد على المشهد، مما يزيد من إحساسنا بفقره المدقع وعزلته. حتى الضوء الشاحب الذي ينير اللوحة يبدو وكأنه مشبع بالزرقة، مما يعزز جو الكآبة واليأس.

لكن من المهم ألا نختزل دلالة الأزرق عند بيكاسو في مجرد التعبير عن الحزن واليأس والكآبة. هناك أيضًا بعد روحي وتأملي يمكن استشفافه من هذه الأعمال. فالأزرق هو لون السماء الشاسعة والبحر العميق، وهما رمزان للاتساع واللانهائية والسكينة. في بعض لوحات المرحلة الزرقاء، خاصة تلك التي تصور شخصيات في حالة من التأمل الصامت أو الخشوع، يمكننا أن نلمح هذا الجانب الروحاني، فالأزرق هنا يوحي بالسلام الداخلي والبحث عن معنى أعمق في الحياة، حتى في خضم المعاناة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار استخدام بيكاسو للأزرق في هذه المرحلة بمثابة تعبير عن تضامنه العميق مع الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع، من خلال تركيزه على معاناتهم وتصويرهم بألوان قاتمة تعكس حالتهم البائسة، وكأنه يوجه رسالة إنسانية قوية، يلفت الانتباه إلى الظلم الاجتماعي ويدعو إلى التعاطف والتراحم. الأزرق هنا يصبح لغة الاحتجاج الصامت، ووسيلة لإعطاء صوت لمن لا صوت لهم.

تتميز تقنية بيكاسو في هذه المرحلة بالبساطة والتركيز على الخطوط الانسيابية والأشكال المطولة. الألوان غالبًا ما تكون أحادية أو قليلة التنوع، مما يزيد من قوة تأثير اللون الأزرق. حتى عندما تظهر ألوان أخرى باهتة، فإنها تخضع لهيمنة الأزرق وتكتسب صبغة منه. هذا التجانس اللوني يخلق جوًا موحدًا يعزز من الشعور العام بالحزن والتأمل.

مع مرور الوقت واقتراب نهاية «المرحلة الزرقاء» من حياة بيكاسو الفنية، بدأت تتسلل تدرجات من ألوان أكثر دفئًا في لوحاته، مثل الوردي والبرتقالي. هذه الألوان كانت بمثابة إشارة إلى تحول في مزاجه الفني والنفسي، وإيذانًا ببداية “المرحلة الوردية” التي تميزت بأجواء أكثر تفاؤلاً وشخصيات أكثر حيوية.

ورغم ذلك، سيبقى اللون الأزرق مرتبطًا بشكل وثيق بفترة حاسمة في تطور بيكاسو الفني. لقد كانت المرحلة الزرقاء بمثابة فترة تجريبية فريدة وعميقة، استكشف فيها الفنان الشاب قوة اللون التعبيرية وقدرته على نقل المشاعر الإنسانية المعقدة. إن دلالة اللون الأزرق في أعمال بيكاسو خلال تلك السنوات ليست مجرد انعكاس لحزن شخصي أو لظروف اجتماعية قاسية، بل هي شهادة على قدرة الفن على تجاوز الواقع المرئي والوصول إلى أعماق التجربة الإنسانية. لقد أثبت بيكاسو أن لونًا واحدًا يمكن أن يحمل في طياته عالمًا كاملًا من المشاعر والأفكار، وأن البساطة اللونية يمكن أن تكون في أحيان كثيرة أكثر بلاغة من التنوع الزاهي. تظل المرحلة الزرقاء لبيكاسو مثالًا مؤثرًا على كيف يمكن للفن أن يكون مرآة للروح الإنسانية في أحلك لحظاتها، وشهادة على قدرة الفن على تجاوز الجمال الشكلي ليلامس جوهر الوجود الإنساني.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.