الفن الفطري عند الشعيبية طلال.. عفوية لا تعرف القواعد

الفن الفطري عند الشعيبية طلال.. عفوية لا تعرف القواعد

جولييت المصري

اللوحة: من أعمال الفنانة الشعيبية طلال

في قرية على أطراف المغرب، حيث تمتد الأرض لتحتضن السماء وتنساب الوديان بلا قيود، ولدت الشعيبية طلال. في قرية «اشتوكة»، بالقرب من مدينة أزمور، عاشت طفولتها تتأمل الحياة في أبسط صورها، بين الحقول الخضراء والبحر الذي يروي حكايات الموج المتلاطم، وبين الأزهار البرية التي تنبت بعد المطر كأنها تحتفل بعودته. كانت ترى في الطبيعة حياة نابضة، مليئة بالحركة، وكانت تحتفظ بكل هذه المشاهد في ذاكرتها دون أن تعرف أنها ستصبح يومًا ما بصمات في لوحاتها.

لم تكن طفولة الشعيبية تشبه طفولة الآخرين، بل أشبه بكتاب ألف ليلة، يروي لها كل يوم حكايات الطبيعة التي تعيشها بصحبتها، كانت ترى الأرض كيف تتغير مع الفصول، كيف يتحول لونها من الأصفر إلى الأخضر الزاهي بعد هطول المطر. تراقب البحر، كيف يثور في الشتاء ويهدأ في الصيف، كيف تحكي أمواجُه قصصًا لم تكن تفهمها لكنها كانت تشعر بها. هذه الصور والمشاهد حفرت في داخلها دون أن تدرك أنها ستصبح يومًا مصدر إلهامها الأعظم، هي الطفلة الحالمة رغم بساطة حياتها، لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة، لكن كان لديها لغتها الخاصة، لغة الألوان التي تحفظها عن ظهر قلب، لكن الحياة لم تمنحها رفاهية البقاء في هذا العالم الطفولي، إذ كان عليها أن تودع هذه الطبيعة التي تعشقها وتنتقل إلى عالم مختلف تمامًا.

  • طفولة معذبة وزواج مبكر

في سن السابعة، كان عليها أن تغادر منزلها لتعيش مع عمها في مدينة الدار البيضاء. كانت هذه المدينة، بكل صخبها وضجيجها، عالَمًا جديدًا عليها، عالمًا بلا نجوم مرئية في الليل، بلا روائح الأرض الرطبة، بلا هدوء الطبيعة التي اعتادت عليها. لم يكن الانتقال سهلاً. كان عليها أن تتعلم كيف تعيش في بيئة مختلفة تمامًا، كيف تتعامل مع الناس الذين لا يعرفون بساطة الحياة كما عرفتها في قريتها. لكن عليها أن تتأقلم، فلم يكن لديها خيار آخر، ولم تكن تعلم حينها أن هذه المدينة ستصبح نقطة تحول في حياتها، لكنها أدركت سريعًا أن عليها أن تكون قوية لتستطيع الصمود.

ودائما تأتينا الحياة بمفاجأتها، ففي الثالثة عشرة، جاء التحدي الأكبر: الزواج.. لم يكن الزواج جزءًا من أحلامها، لكنه كان حقيقة مفروضة عليها. تزوجت برجل طاعن في السن، ولم يكن يشبهها، لم يكن يشاركها شغفها بالحياة ولا حبها للألوان، لكنه أصبح جزءًا من واقعها. عاشت حياة الزوجة التقليدية، امرأة صغيرة في بيت كبير، مسؤولة عن أمور لا تزال تتعلمها. لم يكن هناك وقت للطفولة، لم يكن هناك مجال للحلم. كان عليها أن تكون ناضجة رغم سنها الصغير، ومحاولة فهم الحياة من منظور جديد تمامًا.

لكن رغم هذا الواقع القاسي، كانت تحتفظ بابتسامتها، كانت تحاول أن تجد السعادة في تفاصيل صغيرة، وكانت لا تزال تشعر بأن هناك شيئًا أكبر ينتظرها، شيئًا لم تدركه بعد لكنه يسكن داخلها، وبعد سنوات قليلة، أنجبت ابنها طلال، الذي أصبح النور الوحيد الذي يُضيء حياتها وسط كل التحديات. كان ابنها كل شيء بالنسبة لها، كان الشيء الوحيد الذي جعلها تشعر بأن لحياتها معنى، عاشت من أجله، كافحت من أجله، تحملت كل المشقات لتوفر له حياة كريمة رغم كل الصعوبات.

لكن القدر لم يمنحها الاستقرار، إذ رحل زوجها، تاركًا إياها تواجه الحياة، أصبحت امرأة وحيدة في مواجهة العالم. كان عليها أن تكافح من أجل ابنها، أن تجد طريقة للبقاء رغم قسوة الظروف. لم يكن لديها موارد، لم يكن لديها دعم، لكنها كانت تملك شيئًا أقوى من كل ذلك: الإرادة.

بدأت تعمل كخادمة في المنازل، تتنقل بين البيوت، تحمل الأثقال، تنظف، تعتني بأبناء الآخرين في الوقت الذي كانت تحتاج فيه للاعتناء بابنها. لم تكن الحياة سهلة، لكنها لم تستسلم، كانت تستيقظ كل صباح وهي تفكر في مستقبل ابنها، كيف يمكنها أن توفر له حياة أفضل، كيف يمكنها أن تصنع شيئًا جديدًا في حياتها، شيئًا يخرجها من الفقر الذي كانت تحاربه يوميًا.

  • الحلم الذي غيّر كل شيء

وفي إحدى الليالي، حدث شيء غريب، شيء لم تكن تتوقعه. حلمت، لكن هذا لم يكن مجرد حلم، بل كانت الرؤيا. رأت السماء الزرقاء، رأت أشرعة تدور، رأت أشخاصًا يقتربون منها ويمنحونها أوراقًا وألوانًا، وكأنهم يخبرونها بأن الوقت قد حان لكي تبدأ رحلة جديدة. استيقظت وفي داخلها إحساس غريب، إحساس لم تعرفه من قبل، لكنه كان واضحًا وصادقًا. كان عليها أن ترسم، أن تمسك بالألوان وتبدأ في التعبير عن كل ما في داخلها، وفي صباح اليوم التالي، لم تتردد. ذهبت إلى السوق واشترت الدهان الأزرق الذي يُستخدم في تلوين الأبواب، وبدأت ترسم. كانت البداية متواضعة، مجرد بقع وبصمات، لكنها كانت بداية حقيقية.

  • الفن لا يحتاج إلى قواعد

لم تكن تعرف أي شيء عن المدارس الفنية، لكنها كانت تعرف كيف تعبّر عن نفسها. كان الرسم بالنسبة لها شيئًا فطريا طبيعيًا، جزءًا من هويتها التي لم تكن تعرف أنها تملكها. كبر ابنها طلال في هذا الجو الفني، وبدأ يرسم مثل أمه، وكأن الفن أصبح لغة خاصة يتحدثان بها، حتى أنه فاق أمه براعة، وأصبح فنانا مشهورا.

وذات يوم، جاء الناقد الفرنسي «بيير كوديبرت» برفقة الرسام «أندريه الباز» ليرى أعمال ابنها، لكنه فوجئ بلوحاتها، تلك اللوحات التي كانت تحمل مشاعر وألوانًا تختلف عن معاصريها. شجعها، دعمها، وبدأت الشعيبية رحلتها الحقيقية في عالم الفن.

  • الشُهرة والاعتراف العالمي

لم تبقَ لوحاتها داخل المغرب، بل بدأت تأخذ طريقها إلى العالم. عرضت أعمالها في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة، وأصبحت رمزًا عالميًا للفن العفوي الصادق.

كانت تستقبل المثقفين والفنانين في بيتها، تجلس بينهم تروي قصصها، وتضحك، وتعيش حياة لم تكن تتخيلها يومًا، لكن المرض زحف إليها، ورغم ذلك لم تتوقف عن الرسم أبدا. وفي الثاني من أبريل 2004، رحلت، لكن روحها لم ترحل، كانت لا تزال هناك، في الألوان التي تركتها خلفها، في الضحكات التي سردها من عرفها، في إرادتها التي ألهمت أجيالًا كاملة.

هكذا، لم تكن الشعيبية مجرد فنانة، بل كانت قصة، حلمًا تحقق رغم المستحيل، وستظل أيقونة للفن الذي ينبض من القلب، الفن الذي لا يحتاج إلى قواعد، بل إلى صدق الروح وشغف الحياة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.