ممنوع يوم الأحد

ممنوع يوم الأحد

اللوحة: الفنان المصري وليد عبيد

في الفيلم الأمريكي الحائز على أوسكار، بعنوان؛ «ممنوع يوم الأحد»، «Never on Sunday»، فتاة أمريكية تشتغل بالبغاء، وهي مهنة قبيحة في مجتمعنا؛ ولكنها تلقى تفهما في أوربا وأمريكا، تتوق الفتاة للحياة الكريمة، وتتمنى أن تعيش مثل أي ربة بيت مُوَقَّرة، وتحلم بمن يَنتَشلها ويُكْرمها ويتزوجها وتُخلص له بقية الحياة، ولأنها لا تستطيع تحقيق حلمها فقد ابتدعت نظاما خاصا بها، يجعلها تمارس حلمها يوما في الأسبوع، فكانت تأخذ أجازه يوم الأحد، تتحول للمرأة التي تتمناها، وعلم أهل المدينة بنظامها الخاص فاحترموه، وكان يزورها الرجال والنساء كأصدقاء ويعيشون معها يوما مَرِحا يعاملونها كربة بيت، تستضيفهم وتقدم لهم بِكرم وود الحلوى والمشروبات، ويتحدثون في كل شيء عدا مهنتها، وتتلقى معاملة وكلمات ونظرات احترام وليس فيها أثر لما يعلمه الناس، وكأنها في هذا اليوم إنسانة أخرى، وحين يطرق بيتها يوم الأحد زبون، تثور وتطرده بعنف.

ولأن كلنا واقعون في نقاط ضعف، ولأن كلنا بعيدون عن نقاط قوة، فهذه الفكرة ملهمة ونبيلة.

***

هذه الفتاة قررت قرارا مدهشا، كسرت «دائرة النمط والتأنيب»، نزعت القابس ليوم واحد في الأسبوع، ولا تدري ماذا بعد، لم تهتم باحتمال خطوة تالية. 

هذه القصة تحكي عن إنسانة تمارس مهنة تؤلم ضميرها، ماذا عن الذي يمارس مهنة لا تؤلم الضمير ولكنها كثيفة بحيث تحشر صاحبها في دائرتها وروتينها طوال الحياة، مثل الطبيب الذي نهاره في المستشفى وبقية نهاره وليله في العيادة الخاصة، وهكذا تمضي السنون ويتسلل الشيب إلى رأسه دون أن يلتفت خارج هذه الدائرة، فهذا الطبيب لم يذق سوى المهنة وأرباحها، ومثله مهن كثيرة تستغرق اليوم والحياة في دائرة لا تتوقف، دائرة تسوقه وهو يظن أنه يسوقها، في هذا النموذج لن يتورم ضميره بسبب الحكم القيمي على المهنة ولكن الذي سيهزمه هو الملل والشعور بعدم الجدوى مما ينتج، فقد حرمته دائرة الروتين من بقية الحياة ومن العيش في شخصيات وأنشطة أخرى موازية.

***

في التراث الديني دعوتان للصدقة، الأولى تحث على صدقة السر لحفظ النية الصالحة ولستر المتصدق عليه، والثانية تمدح من يَسن علنا سُنَّة حسنة، مثل من يبدأ بنشر خير فيتبعه آخرون مندفعين وراء مبادرته.

الغالب استجابة الناس إلى صدقة السر، وهذه الصدقة تعطي المبرر لكل الناس بالادعاء بأنهم يتصدقون سرا، وربما يتيسر لمن دخله الشهري مليونا أن يتصدق شهريا بجنيهات قليلة، فحجة السر تغري بغلبة الشح على النفوس، فيندر الكرماء ويغلب البخلاء ويضيع الفقراء ويحرم المجتمع من فرصة سيران تيار بر وخير يدور بين الناس علنا.

النادر والذي تلاشى في زمننا اليوم هي صدقة العلن، وحين تسأل أي شخص يدعي أنه سر بينه وبين الله يؤدي فيه الصدقة ولا يعلنها، ولو رصدنا العمل الخيري في أوربا لوجدنا الكثافة الهائلة للمساهمة المجتمعية في أعمال الخير، وقديما في بلادنا كان يُشتهر عن ثري أنه بنى مستشفى أو تبرع بأرضه لمدرسة أو جامعة، ولكن اليوم اختفى هذا النموذج تماما ولا يبرز للسطح سوى من يتبرع لنادي رياضي حين يحرز أهداف أو لشراء لاعب شهير.

أصبحت المؤسسات التي تتلقى التبرعات حائلا بين المتصدق والفقير، وهذا هو سر الجفاف العاطفي والروحي والإنساني في مجتمعنا، فاختفى التفاعل العاطفي والشعوري بين الطرفين، وهذا ضروري لمتانة لحمة المجتمع، فتلامس الأيدي وتلاقي العيون حين الصدقة يربط الناس برباط روحي وإيماني متين.

***

“وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ”

هل تلاحظون التقابل بين؛ شَكَرْتُمْ وكَفَرْتُمْ؟.. ما هو شكر النعمة وكفرها؟

هل تلاحظون التقابل بين؛ “لَأَزِيدَنَّكُمْ” و “إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”؟

سأعود لنموذج الطبيب، الذي لو سألته عن مساهمته للخير سيقول « أنا أتصدق»، فتنصحه بأن ينفق مما عنده علنا، الطبيب لديه مهنته، فماذا عليه لو قطع الدائرة بأن كرس علنا يوما في عيادته للكشف مجانا، فيصبح هذا اليوم بعنوان (ممنوع الربح يوم الأحد)، بهذا ورغم ثبات الروتين، إلا أنه خرج من دائرة العمل للكسب، فيرى في عيون الناس نظرة مختلفة، نظرة العرفان من المريض الفقير مقابل نظرة الرحمة من الطبيب، وبهذا تلين إنسانيته ولا تتيبس، ويعطي مثلا للناس، فيفعل مثله زملاءه الأطباء، يتوفر بالمدينة في كل يوم فرصة للكشف المجاني، ويفعل مثله الآخرون في مهنتهم، وكل ينفق مما يتقنه ومما يتوفر عنده، فالتاجر يختار من بضاعته ما يهبه للفقراء دون ربح أو مجانا بحسب قدرته ونيته، وكل صاحب مهنة يبتكر طريقة إنفاق علنية من نفس بضاعته فينتشر الخير ويصبح المجتمع صالحا وسالما.

***

هل نحتاج قرار سلطوي لتنفيذ تلك الأفكار!، أم يستطيع الأفراد المبادرة بتنفيذها ولو في نطاق ضيق في كل مجتمع؟

طالب يدرس في سويسرا ويسكن في غرفة عند امرأة تجاوزت الستين، كانت معلمة قبل تقاعدها والآن تستلم راتب تقاعد مجزي، لكنها تذهب مرتين في الأسبوع، لرعاية مسن عمره 87 سنة، أبدى الشاب امتنانه مما تفعل وسألها ان كانت تعمل لكسب المال، فأجابت إنها تعمل لتكسب الوقت، وتودع لنفسها وقتا في بنك توفير الوقت أو «بنك الزمن»، لكي تستطيع الصرف منه عندما تحتاج له، عندما تتقدم في السن أو تصاب بحادث وتحتاج من يساعدها، سألها عن معلومات أكثر عن ذلك البنك، قالت له: «إنَّ الحكومة السويسرية أنشأت ذلك البنك كضمان اجتماعي للناس حيث يفتح كل راغب في الاشتراك فيه حساب زمن، بحيث يُحسب له الزمن الذي يقضيه في الخدمة الاجتماعية خصوصا خدمة المسنين والمرضى الذين لا يوجد لهم من يرعاهم أو يساعدهم من عوائلهم، يشترط على المشترك أن يكون سليما صحيا وقادرا على العطاء والتواصل مع الاخرين والتحمل وراغبا في تقديم الخدمات بنفس راضية وإخلاص، عندما يحتاج الشخص مساعدة يرسل له البنك شخصا متطوعا ممن اشتركوا في البنك ليخدمه ويخصم الوقت من حسابه، الخدمات التي يقدمها المتطوع إما تقدم للمحتاج في المستشفى أو في البيت كأن يرافق المحتاج للتسوق أو للتمشي أو لمساعدته في تنظيف منزله».

في أحد الأيام احتاجت تلك المرأة للمساعدة عندما سقطت أثناء تنظيف نافذتها وكسر كاحل قدمها واضطرت للبقاء في السرير عدة أيام، أراد الطالب تقديم إجازة اضطرارية لمساعدتها لكنها قالت له: إنها لا تحتاج مساعدته لأنها قدمت على طلب سحب من رصيدها في البنك وأنهم سيرسلون لها من يساعدها، جاء المساعد الذي عينه البنك وكان يرعاها و يتحدث معها و يرافقها ويقضي لها حاجياتها من السوق، وأرسل لها البنك ممرضة عندما احتاجت لذلك، بعد أن تعافت من الكسر عادت للعمل مرتين في الأسبوع لتعويض ما خسرته من وقت في البنك، باختصار ذلك البنك وجد لتبادل أو مقايضة خدمات اجتماعية بدلا من تبادل أموال. 

فكرة جميلة جدا ومفيدة، يمكن تطبيقها في كل مجتمع من المجتمعات لكنها تتطلب انضباطا وإحساس بالمسؤولية وإخلاصا في أداء العمل.. وثقافة إنسانية عالية 

***

في كندا، تم دمج دار لرعاية المسنين مع دار للأيتام، وكانت النتيجة أفضل بكثير من المتوقع، أصبح لكبار السن أحفاد، ولم يشعروا بالوحدة أبدا، وهبط اشتياقهم لأبنائهم وأحفادهم، أما الأيتام فأحسوا بأن كبار السن أجدادهم الحقيقيين وألفوهم وتعلموا منهم.

فكرة بسيطة وعبقرية تحل مشكلة للطرفين، يجد اليتيم رعاية كريمة وحكيمة وحنونة من المسنين، ويشعر المسن أنه مازال قادرا على العطاء، وتقوم الدار برعاية المسن، فكرة مجانية وتوفر كثيرا وتحقق نتائج تتفوق على نتائج قيام كل دار منعزلة عن الأخرى.

***

في قصة الفيلم نجد المجتمع لم يحكم قيميا على مهنتها واحترم خياراتها في الحياة، ولا نستطيع تخيل هذا السيناريو عندنا، فالمشهور عندنا كما في الفيلم العربي يجتمع الناس أمام البيت ويهتفوا: «لتهبط الغَزِيِّة – الراقصة- وتغادر المدينة»، فالمجتمع العربي لا يرى من الفساد سوى الراقصة والبغي، ولكنه يتساهل مع المراهق حين يخطئ والفاسد حين ينحرف ويظلم، وهذا تناقض صارخ، يدل على ارتباك القيم، فالموقف الطبيعي من المجتمع أن يعين البغي على امتهان مهنة كريمة ويرحمها، ويمنع الفاسد من فساده بالتصدي له أو التضييق على أسباب الفساد، المجتمع الصالح هو الذي يرحم أفراده ويعينهم على الحياة الكريمة والصالحة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.