تأخذنا الكاتبة اليمنية حورية الإرياني عبر أحداث روايتها «خضرا» في رحلة نستكشف فيها أعماق النفس البشرية في مواجهة قسوة العالم، من خلال الغوص في عالم طفلة صغيرة تفقد حاضنتها، وتواجه ظروفا قاسية وفقدا مبكرا تواجه بعده قسوة التشرد والضياع، حتى تكبر وتصبح امرأة قوية ومستقلة، وتستعرض موضوعات معقدة مثل الطفولة المشردة، الفقد، الهوية، صلابة المرأة، والصراع الاجتماعي، وذلك من خلال شخصيات متنوعة تمثل جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية، وبلغة وأسلوب يثريان النص ويعمقان من دلالاته ضمن سياق اجتماعي وثقافي يلقي بظلاله على الأحداث والشخصيات.
وتسبق سرد الأحداث بمشهد النهاية، كمبرر للعودة «فلاش باك» للذكريات التي حفظتها من حياتها السابقة، وربما لتعرض لنا أن الانسان وقت الموت تمر حياته كلها كصور في مخيلته مثل الفيلم السينمائي، وربما لتشعرنا أن الأحداث نفسها ما تزال مستمرة، وما تزال الراوية – المرأة – تعانيها، وأنها تدور في نفس الدائرة – عودا على بدء، فتسترجع الراوية ذكرياتها، مما يشير أيضا إلى أن الذاكرة تلعب دورا محوريا في تشكيل هويتها وفهمها لذاتها.
بداية صادمة وطفولة مشردة:
تستهل الرواية بمشهد ميلودرامي مؤثر لطفلة تنتظر عودة من ترعاها في ليلة باردة، تعاني فيها الوحدة، والخوف من العتمة، وتلك أحاسيس مقبولة ومبررة فترة الطفولة، لكننا نجد مع توالي الأحداث أن مبعث الخوف والشعور بالوحدة لم تكن مسبباته نفس المسببات المنطقية لدى الأطفال في نفس العمر، وإنما بسبب تلك الحياة التي تعيشها هذه الطفلة في حضن من لا يهتم بها، وإذ بها تواجه واقعا صادما بظهور رجل غريب تفوح منه رائحة كريهة، على حد وصفها الذي له دلالته في الحدث التالي، يدخل بصحبة من ترعاها، والتي لا تفصح الكاتبة عن علاقتها بها فلا يعرف القارئ هل هي الأم أم الشقيقة الكبرى أم من؟ كل ما نعرفه هو اسمها «خضرا».
هذا الزائر الغريب، يغادر مسرح الأحداث مسرعا متخبطا بعد شجار وصياح وجلبة، لنفاجأ بموت «خضرا» في مشهد عنيف يترك الطفلة وحيدة لتواجه عالما قاسيا، بلا اسم ولا هوية واضحة، مما يرمز إلى الضياع والتشرد الذي يعاني منه كثير من الأطفال في المجتمعات الفقيرة المهمشة.
هذا المشهد الافتتاحي الذي يكتنفه الغموض، يلقي بظلاله على الرواية بأكملها، ليصبح بمثابة المفتاح الذي يكشف عن عالم هش ومضطرب ستعيش فيه الطفلة، ويضع حجر الأساس لعالم روايتها، ويشكل نقطة انطلاق لاستكشاف الثيمات المؤثرة التي تكون الموقف الاجتماعي القاسي، حيث تُسلب الطفولة من بطلتها مبكرا، فالطفلة الرّاوية تشهد أحداثا تفوق استيعابها، كفقدان خضرا المفاجئ، والعنف الذي يحيط بها، فتتركها وحيدة بلا اسم أو هوية نهبة لتجربة التشرد والضياع، فيشكل ذلك صدمة نفسية تترك بصماتها وندوبها العميقة في ذاكرتها وروحها، والتي تظهر لاحقا في شكل كوابيس وذكريات متقطعة تعود لتطاردها.
قسوة المجتمع وانعدام الضمان الاجتماعي:
وتطرح الرواية أسئلة أخلاقية معقدة، وتصور عالما رماديا تتداخل فيه قوى الخير والشر، فتتعرض الشخصيات لمواقف صعبة تتطلب منها اتخاذ قرارات أخلاقية صعبة، وتكشف عن هشاشة بعض القيم الإنسانية في ظل الظروف القاسية، ومع ذلك، تبرز قيما إيجابية مثل التعاطف والرحمة والإصرار، والتي تمثل قوى مضادة لقسوة العالم، فتصور الكاتبة قسوة المجتمع في استغلال الأطفال، والنظرة الدونية للمهمشين، والعنف الجنسي، وفي المقابل، تبرز لطف بعض الأفراد، فتنجو الطفلة – بطلة الرواية – من هذه المخاطر بفضل لطف يحيى وعطف العم ناجي، اللذين يمثلان نماذج إنسانية مضيئة تقدم العون والحماية للطفلة الضائعة في عالم مظلم، ويأتي زواجها من العم ناجي وهو في عمر جدها، زواجا غير تقليدي، يقوم على علاقة تقدير وامتنان تحميها وتوفر لها الاستقرار، ولكنه أيضا يثير تساؤلات حول طبيعة هذه العلاقة ودوافعها، كما تبرز الرواية العلاقة المعقدة بين الجسد والهوية، حيث يمكن أن يكون الجسد مصدرا للقوة والضعف في آن واحد، كما تطرح الرواية تساؤلات حول النظرة المجتمعية للمرأة ودورها في مجتمع يفرض عليها مواجهة الكثير من التحديات دون سند أو معين.
الشخصيات.. تجلياتها الإنسانية مرآة للمجتمع:
تمثل الشخصيات في الرواية نماذج إنسانية متنوعة، وتعكس جوانب مختلفة من المجتمع، وتسهم العلاقات بينها في تشكيل هوية البطلة وتطورها، وتكشف عن الصراعات النفسية والأخلاقية للأفراد، وتبرز القيم الأخلاقية والإنسانية التي تتبناها الرواية، مثل التعاطف والرحمة والعدل، ولكنها أيضا تكشف عن هشاشة هذه القيم في بعض الأحيان، وتكشف عن الصراعات الاجتماعية والثقافية من خلال تفاعلات الشخصيات المختلفة، وتسلط الضوء على قضايا الفقر والظلم والتمييز، وتطرح أسئلة حول العدالة الاجتماعية والمساواة.
تبرز في الرواية عدة شخصيات تجسد تعقيدات النفس البشرية، فتتصارع في داخلها قوى الخير والشر:
• خضرا: تظهر كشخصية غامضة لكنها محورية في حياة الطفلة، يكتنف شخصيتها الغموض وتجسد المعاناة والقهر في أسوأ صوره، وتعاني من تقلبات مزاجية تثير قلق الطفلة وتخلق جوا من عدم اليقين الذي حاولت الكاتبة التعبير عنه بعدم معرفة الطفلة لهوية خضرا الحقيقية، وعدم معرفتها لاسمها، فمن تكون؟ ومن أبوها؟ وجاء موت خضرا العنيف الصادم ليترك أثره العميق على الطفلة، ويشكل لغزا يحاول القارئ حله، ومع تطور الأحداث، نكتشف أنها أم الطفلة، أو هكذا ادعت، وأن اسم الطفلة الحقيقي هو «نور» التي ظلت لفترة من الزمن تعتقد بالفعل أن خضرا أمها، لكنها تكتشف بعد موتها أنها سارقة وخاطفة، فقد سرقتها من أسرتها وهربت بها، ولم تقل لها أبدا تلك الحقيقة، بل كذبت وادعت أن والدها هو ابن ناجي الكبير خالد، حبها الوحيد، ولم تنته الأحداث عند هذا الكشف في شخصية خضرا الإشكالية، بل نكتشف أنها كانت شديدة العناد والتمرد، وهي شبه مريضة نفسية، تجيد الخداع والكذب وتقمص الشخصيات، لكنها الوحيدة التي استطاعت الحياة كما تريد.
وبالتأمل في السر وراء جعل الطفلة تختار لنفسها اسم خضرا عندما سئلت عن اسمها بعدما هربت، ولماذا تخيرته الكاتبة ليكون عنوانا لروايتها، يمكننا اعتبار خضرا رمز للطفولة المفقودة والضعف في مواجهة قسوة المجتمع، وللجزء المظلم والمضطرب في نفس الإنسان، وللأثر المدمر للعنف الجسدي والنفسي الذي يمارس ضد المرأة، وفي الوقت نفسه عنوان التمرد، والمواجهة والجرأة في تحدي المجتمع، والبحث عن الهوية والحرية.
• نور.. الطفلة الرّاوية: طفلة مذعورة صامتة، قوية الملاحظة، شكلت الصدمات المبكرة شخصيتها، لكنها تحمل في أعماقها ندوب الماضي الذي يطاردها. تكبر الطفلة «خضرا» المفترضة، لنعرف أن اسمها الحقيقي «نور»، وتصبح شخصية قوية وامرأة مستقلة تتحدى الصعاب وتشق طريقها بنجاح، فتكمل تعليمها وتمارس عملها كطبيبة، وتحظى باحترام مجتمعها مما يعد انتصارا على الظروف القاسية التي نشأت فيها، ولم تخلُ حياة نور من التحديات، فهي تواجه الوحدة والعزلة، وتتعرض لمضايقات كثيرة بسبب ماضيها، وتواجه تحديات مستمرة في علاقاتها وثقتها بالآخرين، وفي سعيها للتوفيق بين الاستقلالية والحاجة إلى الانتماء، لكنها تتجاوز هذه العقبات بقوة إرادتها وصلابتها، لتثبت أن المرأة قادرة على تحقيق ذاتها والنجاح في مجتمع يفرض عليها قيودا لا قبل لها بها، فنور ليست مجرد ضحية للظروف، بل هي فاعلة قادرة على تشكيل مصيرها، تعليمها وعملها وزواجها يمثل انتصارا رائعا على العقبات التي أفرزها المجتمع بنظرته القاصرة لمن هم في مثل ظروفها.
• يحيي: يمثل اللطف الإنساني في أبسط صوره، يقدم العون للطفلة الضائعة دون مقابل، ويلعب دورا هاما في تعريفها على أهمية الاسم والهوية، ويمثل بصيص الأمل في عالم قاس، ويذكرنا باللطف الإنساني وأثره في مواجهة الظروف الصعبة، واختيار الكاتبة لاسمه له دلالة، فهو يحيى، أول من أحيا نبتة ذابلة في نفس الطفلة لتبحث عن هويتها.
• ناجي: يظهر كشخصية طيبة وحنونة، ينقذ الطفلة ويقدم لها الرعاية والحماية، يمثل لها الأبوة البديلة، ويجسد نموذجا للرجل الطيب الكريم، لكننا نكتشف أنه جد الطفلة، ولا يريد الاعتراف بها كحفيدة ربما لأنه يعتبرها ابنة غير شرعية، لذا، فضل أن يقدم لها الرعاية المبطنة دون أن يفصح عن هويتها الحقيقية، ربما خوفا من النقد الاجتماعي والوقوع في هاوية الفضيحة، لذا نجده يتزوج من نور لحمايتها، زواج غير مكتمل الأركان كما سمته ابنته، رغم أنه يعلم بكونه زواج محرم دينيا، إنما يبقى هدفه منه شفيعا له، لأنه بغرض الحماية، وأنه لم يقرب الفتاة ولم يعاملها كزوجة، ولكننا مع توالي الأحداث، نكتشف أنه ليس جد نور، وأن خضرا قد ادعت على ولده لأنه كان حبيبها، ولم يوافق ناجي على زواجها من ابنه خالد لأنه لا يعرف بنت من هي، فربما أرادت أن تنتقم منه، أو تظل بالقرب منه لعل حبها الهارب يعود إليها.
• العمة: امرأة تمثل جانبا مهما وشريحة مجتمعية ينبغي الوقوف عندها، فهي رغم أنها أم إلا أنها تحمل غيرة الزوجة عندما تدخل فتاة يانعة كخادمة لمملكتها، وتحمل عقيدة المجتمع ونظرته للطبقة الأقل غنى ومكانة اجتماعية، فقد دفعها ذلك إلى إذلال الطفلة والشك الدائم فيها رغم طول السنوات التي خبرتها فيها كخادمة مطيعة ومجتهدة وأمينة، لكن كل ذلك لم يشفع لها، لتنتهز أول فرصة لاتهامها ومحاولة طردها من المنزل.
• صالح الدوهي: مغتصب الأطفال، يمثل الجشع والاستغلال، والجانب المظلم في مجتمع لا يتورع فيه من هم على شاكلته من ارتكاب الجرائم كالاغتصاب حتى لو كان اغتصاب الأطفال، فقبل حادثته مع الطفلة، والتي أنقذها القدر من يديه في آخر لحظة، وسبق واغتصب فتى صغير كان يحب أن يبتاع من دكانه الحلوى، فهو متمرس في ذلك، متمترس حول ستار من خوف الأطفال وزعرهم، ورعبهم من كشف الحقائق لذويهم، وهذا يجرنا إلى نظام التربية في المجتمع، حيث يقيد الطفل بالعيب والمحرم، فيخشى من مصارحة الكبار بما يتعرض له من قسوة واعتداء، وخاصة الاعتداء الجنسي.
• زهر زوجة جمال وابنتها نبيلة: امرأة رائعة رغم كونها ثرثارة وتحب تتبع أخبار الآخرين، احتضنت البطلة، وفتحت لها نوافذ رحبة على الحياة، ورحبت هي وزوجها بتعليم نبيلة لنور القراءة والكتابة، بل ورعتها وشجعتها هي وأسرتها على إتمام تعليمها لما رأوه فيها من نباهة وذكاء، وهم من حموها وآزروها لتنطلق في الحياة.
وهناك شخصيات أخرى في الرواية مثل خالد وسماح، تبين الفسيفساء البشرية التي يتكون منها المجتمع، والتي يكون دورها مؤثرا ولو كان هامشيا، إلا أنه يبرز التحديات والتأثيرات الاجتماعية في بناء شخصية الفرد وقدرته على التفاعل والمواجهة.
اللغة والأسلوب كأداة للتعبير:
تتميز لغة الرواية بالسهولة والوضوح، وتتنوع بين الوصف الذي يثير حواس القارئ ومشاعره، ويجبره على متابعة الحدث، والحوار العفوي الذي يعكس شخصيات المتحدثين وخلفياتهم العقائدية والنفسية والثقافية، كما تتميز بالواقعية وتناولها الجريء لقضايا اجتماعية وإنسانية هامة، وتلقي الضوء على معاناة الأطفال والنساء في المجتمعات المهمشة، وتبرز قوة الروح الإنسانية في مواجهة الظروف الصعبة، وتستخدم الأسلوب السردي بتقنيات مختلفة، مثل الراوي المشارك المتكلم وتداخل الأزمنة، للتعبير عن تعقيد التجربة الإنسانية، ولجعل القارئ يتماهى مع الشخصية الساردة وتقمصها في اللاوعي، كما توظف الكاتبة الرمزية الفنية لإضافة عمق إلى المعنى واستكشاف الجوانب الخفية للواقع.
لكن الرواية تتركنا أمام عدة تساؤلات حول منطقية الأحداث وترابطها، فلا أنكر أن في الأحداث عدة ثغرات لم تملأ وتركت لتقدير القارئ واحتمالاته، مما يدل على أن الكاتبة جانبها التأني في مراجعة الرواية، وإعطائها الوقت للنضج قبل التسرع في إصدارها، وهذا لا ينال من أناقة الرواية وجمال لغتها، لكنه إلقاء بعض الضوء أمام الكاتبة لتبدع أكثر في أعمالها القادمة.
في الختام، رواية «خضرا» رواية تستحق القراءة والتحليل، فهي ليست مجرد رواية عن طفولة ضائعة، وكفاح مستميت من أجل البقاء، بل تصور واقعا اجتماعيا تعاني فيه بعض الفئات من الغبن والتهميش، وتتناول الأعراف والتقاليد الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بالمرأة والزواج، وتقدم قراءة نقدية لبعض هذه الأعراف، وتكشف تأثير الهوية الثقافية على الشخصيات، بما في ذلك القيم والمعتقدات والعادات التي تشكل رؤيتهم للعالم. إنها قصة عن الصمود الإنساني، وقوة المرأة ومثابرتها وإرادتها وتصميمها على النجاح والتغلب على الصعاب، وتبرز أهمية التعاطف معها ومع قضاياها في عالم يسوده الظلم والقسوة والتهميش، وتستكشف أعماق النفس البشرية في مواجهة التحديات، من خلال تحليل الشخصيات ومواقفهم والغوص في الأبعاد النفسية والوجودية، وتتركنا مع تساؤلات محيرة حول الإنسانية والأخلاق والمصير والعدالة الاجتماعية، وصراع الخير والشر في النفس الإنسانية والمجتمع، وتتناول موضوع الحرية والاختيار وقدرة الإنسان على تشكيل مصيره في ظل الظروف الصعبة، ورؤيته العميقة للعالم من حوله.
