الحقيقة العارية

الحقيقة العارية

اللوحة: الفنان السوري بسام الحجلي

يحكي أحمد أمين في فيض الخاطر هذه القصة: «قبل المسيح بستة قرون نجح رئيس وزارة الصين في عقد مؤتمر معاهدة سلام دائم بين الدول الصينية الثلاث عشر، ووقع الجميع المعاهدة، وهنأه الكل بهذا العمل النبيل، ولكن صديقا من أخلص أصدقائه لم يشارك الناس في الثناء عليه ورماه بالغفلة والبلاهة، وقال: (إنَّ مشروعك ليس إلا مجرد أوهام، ولا يستحق تكريم، بل عقاب قاسي، لأنك غطيت وجه الحقيقة، وكان يجب أن تظل الحقيقة عارية حتى لا يضل الناس)، فعجب صديقه الوزير من مخالفته الإجماع، ولكن لم يمض عشر أعوام حتى نقض العهد ونشبت الحرب بين الدول التي وقَّعَت على المعاهدة»

***

في هذه القصة حكمة، لأنه مثل من قام بطلاء حائط متشقق فأصبح لامعا على السطح، والأولى أن يعالج سر تشقق الحائط أولا ثم يطلي بما يشاء فيما بعد، وأشبه بمن يطهر الجرح من السطح ويترك القيح يرتع داخله، والأولى معالجة منبع الصديد ثم مداواة السطح، والدول الصينية الثلاث عشر تعاهدت على السلام وتركت ما في القلب من شر (طمع – تنافس – غضب – غيرة – سباق – مشاعر سيئة – اختلاف أيديولوجي.. إلخ)، وكان الأولى أنْ يتأكد من سلام الصدور والنيات والأفكار بينهما ثم يوقع معاهدة الصلح.

ومثاله كل معاهدة بين عدوين، يجب أن يُنزع فتيل العداوة أولا ثم توقع معاهدة السلام حتى لا تنبت بذور الشر بينهما ثانية.

***

كثيرا ما أقرأ كتاب تاريخ ويُصر المؤرخ على ذكر كل الأحداث بالتاريخ الهجري، وأخرج من الكتاب أو المحاضرة وأنا مجهد، لأن المفترض في التاريخ أن يرسم صورة أو خريطة للزمن في خاطري، ولكن كيف أنجح في تكوين هذه الصورة وقد تطلب الأمر تحويل كل تاريخ هجري إلى ميلادي كي أربطه بما أعرف من أحداث العالم، فكل أحداث العالم مسجلة في خريطتي الزمنية بالميلادي، وعندما أحاول تفهم إصرار المؤرخ على التاريخ الهجري لا أجد سوى توهم أنه التزام ديني، ولكن الالتزام الأول بالتاريخ الهجري كان اجتهاد وليس دين، وحين تصدرت الحضارة الإسلامية كان التقويم الهجري عالمي، وحين تراجعت الحضارة الإسلامية، تراجع معها التقويم الهجري وحل الميلادي، وبهذا أصبحنا مثل أطفال اليوم الذين نصف كلامهم إنجليزي والنصف الآخر عربي عامي، وهذا دليل على تشوش ذهنهم، لأن اللغة التي في خيالهم غير ناضجة.. فلا لسانهم ومنبع تفكيرهم عربي ولا إنجليزي.

الحقيقة أنَّ تأريخ الحضارة اليوم ميلادي، والحقيقة أنَّ كل دراستنا بالتاريخ الميلادي، واستخدام الهجري كان يجب أن يكون مبكرا وشاملا كل العلوم والأنشطة، أما أن نربك العقل بين الخيارين فهذا أشبه بمعاهدة السلام التي عقدت دون نزع أسباب اندلاع الحروب.

***

في كثير من البلاد العربية يشتهر أنْ يلقب الإنسان ب (أبو فلان).. وبهذا يبذل مجهود مضاعف للذاكرة، لأنه يجب علينا حفظ اللقب والاسم الحقيقي، وليت الأمر يقتصر على بعض الشخصيات المحدودة في محيط الاختلاط، ولكن كل من يرد ذكره لا بد أن يذكر بالاسم أو اللقب، وبهذا يجب أن يقوم كل إنسان باستهلاك ذاكرته في حفظ الأسماء المزدوجة، وقد قيل أنَّ سبب هذا اللقب أنه يزيد من كثافة التودد بين الناس والحب، ولكني أرى أنَّ الذي يزيد هو الارتباك وفي نفس الوقت لا أجد زيادة في الحب بيننا.. حتى أنني أشك أنَّ هذه الثنائية السبب في تراجع الحب.. وحل مكانه مزيج من النفاق والمجاملة والمداراة وأشياء أخرى ليست حميدة.

الحقيقة أنَّ للإنسان إسم واحد، وتعدد الأسماء لا يقرب قلوب.. الذي يقرب القلوب أشياء أخرى تُلَيّن القلب وتريحه وتنشر فيه السلام.. ومهما ناديت على إنسان بكنيته أو لقبه فلن تتأثر مشاعره تجاهك.. لأن الذي ينتج المشاعر الطيبة نعرفه ونعرف أنه ليست مجانيا.. فسلامة الصدر وخلوص النية وصدق العلاقات ليس سهلا.

نحن نهوى تعقيد الأمور، ولهذا لم نكتفي بالكنيات بل هناك الألقاب، مفهوم أن ينادى المهندس بوظيفته في مصنعه، ولكن كيف يكون مهندسا في بيته وفي شارعه وحتى بعد أن يتقاعد، حتى أنه ينادى عليه يوم الوفاة «توفي إلى رحمة الله المهندس فلان، والطبيب فلان واللواء فلان»، هذه الألقاب والكنيات مسافات ومطبات تعزل وتمنع الانسجام، وتورث عقد نقص وأوهام غرور.. وهذه الأمراض لا تنبت إلا في الشعوب المتخلفة، المتخلفة جدا.

***

معاهدات السلام.. والتقرب بالكنيات.. والتمسك بالقشريات يذكرني بالخطيبان اللذان ينشران صورهما في وسائل التواصل بجانب قلوب وابتسامات ودباديب ونظرات هيام، ثم نسمع دوي انفصالهم بلا مقدمات، هما خير مثال للاستعجال، استعجال العلاقة النادرة قبل أوانها، واستعجال الفخر بجوهرة الحب قبل إثمارها. 

***

تطورت عادة وضع مساحيق التجميل حتى قاربنا على عُرف أنَّ البنت لا تخرج من البيت ولو لدقائق أو تفتح الباب للضيف إلا وهي تحت المساحيق، وفي الأفراح، كانت العروس هي الوحيدة التي تتزين وتضع المساحيق وتلبس الملابس المزخرفة، واليوم أصبح كل الحضور يفعلون ذلك، وأصبحت البنات والنساء شقراوات ولامعات ويرفرفن بجمالهن كل الوقت، أصبح الجميع مثل نجمات السينما، بالإضافة إلى أن كثير من نجوم ونجمات المجتمع يظهرن في الإعلام بوجوه خشبية، فتكرار عمليات التجميل قتل الأنسجة وأتلف الحيوية والنضارة في الوجوه.

هذا التجمل عبارة عن اتفاق شعبي على تزوير الحقيقة والتمرد عليها، فالجمال ليس عنصرا واحدا، وتستطع الفتاة والفتى أنْ يستعينا بكل أدوات الجمال، لا أقصد المساحيق، ولكن «المهارات والطباع والآداب والعلوم والفنون والسلوك»، كل هذه مساحيق حقيقية ودائمة، ولكننا نتسابق إلى التزوير والزيف ولا نعرف إلى متى.

***

كثير من المفكرين والأدباء كتبوا في سيرتهم أنَّهم وجدوا فارقا كبيرا بين قدر النفاق في الغرب وعند العرب، ونسبوا هذا، إلى أنهم في الغرب لا يعانون ضغوطا اجتماعية تجبرهم على النفاق، وهذا بالتجربة حقيقي، فالولد والبنت في العرب، لا يستطيعوا البوح بكل آرائهم وأفكارهم للأب والأم والمدرس والجار والعم والخال، والموظف لا يستطيع أن يبوح برأيه لرئيسه في العمل، المناخ العربي سلطوي، يمنع حرية البوح، خضوعا لمبررات مطاطة نسميها «الأدب. الحياء. العفة. الاحترام. الحشمة. الذوق. احترام الكبير»، الخلاصة أنَّ كل العرب يبلعون لسانهم فلا ينطقون إلا بما يتملق المجتمع، والنتيجة «نفاق. كذب. جبن. مكر. خبث. غدر»، فالحقيقة حرية ولابد أن يتحرر المجتمع كي تتحرر الحقيقة.

في المجتمع الحر، من «يخاف – يخشى – يشك – يكره – يحب – يرغب – يمنع – يعطي.. إلخ»، يعبر عن ذلك علنا بلا تردد، لا يخشى كلام الناس ولا عقاب السلطة، لأن في المجتمع الغربي القانون واضح ومعروف، بينما عندنا في العرب، قوانين رسمية واجتماعية بعدد أوراق الشجر ولكن غير مكتوبة، ولهذا فالحقيقة غير عارية. 

***

الشباب لا يستطيع النطق بالحقيقة ولا مواجهة الحقيقة وفي نفس الوقت يحيا معظم حياته أمام الشاشة، أمام الحياة المتوهمة، وبهذا يحيا هاربا من الحقيقة، كيف لهذا الشباب أن ينتج وأن يؤمل فيه، الحقيقة تحتاج حرية سياسية وحرية مجتمعية، وكلاهما بعيد عنا، «وما حك جلدك مثل ظفرك».

***

كنا نسمي «العصبية والبخل والخجل.. إلخ» طَبْعاً، ولكن مع العلم الحديث أصبحت أمراضا يسهل الشفاء منها.

لم تعد عصبية الأب أو الأم قدرا يتسبب في نكد الحياة، وفي زرع العقد في نفوس الأولاد، بل مرضا يستدعي علاجا نفسيا خبيرا ثم يشفى الإنسان تماما ويصبح بلا توتر ولا عصبية.

من ابتلي بوصف «زير نساء»، يتوجه طوعا إلى الطبيب فيحفر في أسباب هذا المرض ثم يعالجه ويشفيه.

ويعالج البخل بالحفر في أسبابه ودوافعه ومعرفة سبب غلبته على النفس، ثم يدرب على ضده ويصبح كريما ومعتدلا.

أصبحت الحقائق اليوم أقرب وأسهل بالعلم والمعرفة، لم تعد الأمراض تستر وتخفى وتنسب لطباع أو خُلق، بل تلقى اليوم تفهما ويتسلمها المتخصصون بخبرة وعلم وتتحسن جودة الحياة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.