يوميات هناء في نيويورك – عيد الأم في منهاتن

يوميات هناء في نيويورك – عيد الأم في منهاتن

اللوحة: الفنانة الأميركية ماري كاسات

هناء غمراوي

بين “الغابة في الداخل” و”الجزيرة الصغيرة” 

أمس كان يوماً مميزاً بالنسبة لي، فانا الآتية من شرق يحتفي بعيد الأمهات في شهر آذار، يكون لي في كل سنة؛ بدل العيد عيدين. عيد في أواخر آذار وآخر بداية الأسبوع الثاني من شهر أيار؛ هو عيد الأم في أميركا.

وكوني مقيمة هنا في نيويورك، منذ ما يزيد عن خمس سنوات كان من الطبيعي ان تحتفي بي ابنتي ندوة بي هذه السنة أيضاً، وعلى طريقتها. آخر مرة احتفلنا معاً كانت منذ أربع سنوات (لوجودي المتكرر خارج نيويورك في مثل هذا الوقت من السنة). حينها حجزت لنا بطاقتين لدخول حديقة (Botanical garden) في بروكلين؛ للتنزه داخلها وحضور عدة عروض موسيقية حية نفذتها فرق فنية محترفة بين ظلال الخضرة وعبق الأزهار وخرير الجداول المنسابة في السواقي والبرك المائية المنتشرة في كل مكان…

أمس كان اختيارها مختلفاً. فقد حجزت لحضور عرضين مختلفين نهار الأحد، في منهاتن للاحتفال معاً بالمناسبة. كان أولهما؛ حضور عرض Digitalلفنانين من كوريا بعنوان: (the forest within)؛ “الغابة في الداخل”.!

أما الخيار الثاني فكان حضور عرض للأزياء تقيمه شركة برادا العالمية.

كلا العرضين كان يبدأ من الحادية عشرة ما قبل الظهر ويستمر الى السابعة مساءً.

قصدنا أولاً مبنى جانيسيس هاوس حيث يتم عرض (الغابة في الداخل). أول ما شاهدناه عند وصولنا كان صفاً طويلاً من الحضور يقف في الشارع قبالة المبنى، حيث يقوم موظف موكل بتنظيم الدخول الى مجموعات لا تتعدى اربعة أشخاص.

هذا المشهد صار مألوفاً عندي، فالأميركيون ملتزمون بتطبيق النظام إلى أبعد الحدود.

العرض كان في احدى القاعات السفلية للمبنى حيث وقف هناك أيضاً موظفان آخران لتنظيم الدخول، وتوزع عد آخر داخل قاعات العرض، ربما هؤلاء كانوا متطوعين يقدمون خدمات بدون مقابل للمساعدة على انجاح العمل الفني المعروض…

“الغابة في الداخل” كما تم الإعلان عنه هو مشروع فني مُحفّز للتفكير، يستكشف موضوع اكتشاف الذات والتأمل. هو ثلاثية من الأعمال الفنية تدعو المشاهدين إلى رحلة رمزية في غابة منعزلة، تُجسّد تعقيدات العقل البشري.

لُخص العرض في ثلاث مجموعات، هي: “غابة”، و”غابة في الداخل”، و”رقص في الغابة”. ويهدف هذا العمل الفني إلى إثارة شعور بالتأمل والتأمل الذاتي، وتشجيع المشاهدين على استكشاف عالمهم الداخلي من خلال عبور الغابة جسديا ومجازياً.

منذ خطوت إلى القاعة الأولى، كانت الدهشة انطباعي الأول عن العرض؛ دهشت لدى مشاهدة الورود المنتشرة بشكل مجموعات على جانبي القاعة، وبأشكال وأحجام مختلفة عن المألوف مما شاهدته من قبل، مع الاحتفاظ بنفس الرائحة العطرية للورود. لدرجة جعلتني أشك بأن هذه الورود هي طبيعية!. 

داخل القاعة الثانية، غرست شجرة متوسطة الارتفاع وقد تزينت أغصانها بزهور بيضاء تشبه زهور الغاردينيا. وانتصب في الجهة المقابلة لها حائط من السراميك الأسود كان يتحول بفعل الإضاءة الى شلال من الماء المنسكب، الذي كنا نسمع صوت انحداره بواسطة تقنيات صوتية وضوئية كانت تستخدم كل بضعة دقائق فينتشر الظلام وتنهمر المياه بشكل شلال قوي وتسرح على شكل سواقي تحت الجسر الخشبي الذي كان يفصل بين الشجرة المضاءة والحائط المقابل بعرض حوالي متر ونصف، ذلك الجسر الخشبي، الذي عبرنا من خلاله الى القاعة الثالثة والأخيرة، حيث تجسدت الغابة الداخلية بكل مكوناتها; من نباتات وطحالب برية والعديد من سيقان البامبو، التي غرست بطريقة فنية جميلة. كما انتشرت في وسط القاعة عدة مرايا دائرية من الزجاج الملون. توهم المشاهد وتحت إضاءة خفيفة جداً انها برك مائية صغيرة. وقد نبتت على حواف تلك البرك بعض الحشائش، والزهور والنباتات البرية، من بينها نبتة المنشار أو الفجيرة؛ هذه النبتة الخضراء التي رأيتها من قبل في كثير من البيوت في لبنان وكانت تستخدم كنبات داخلي للزينة…

العرض لم يستغرق وقتاً طويلاً عبرنا خلاله قاعتين كانتا عبارة عن ممرين عريضين يفضيان الى الحجرة الداخلية التي تزاحمت فيها البرك الزجاجية، وانواع كثيرة من النباتات. والتي حولتها الإضاءة الخفيفة داخلها الى ما يشبه كهفاً مكسواً بالخضرة والجمال… الملفت في المكان أيضاً كان توزع عدد من المرشدين، داخل تلك المساحة الصغيرة نسبياً. والذين كانوا يقدمون بعض الإيضاحات عن طبيعة العمل المعروض والفنانين المشاركين به. وقد تبرعت صبية منهم يوحي مظهرها انها من الجالية الكورية، أن تشرح لي بأن كل ما تقع عليه العين داخل هذا المكان هو طبيعيّ، ما عدا الشجرة ذات الورود البيضاء. وذلك بعدما لاحظت انني حاولت لمس إحدى أوراق النباتات لأتأكد من طبيعتها.

لم يستغرق مكوثنا في الداخل لأكثر من خمسة عشر دقيقة، في حين احتجنا للالتزام بالوقوف في صف منتظم لضعف هذه المدة قبل الدخول.

رغم ضيق مساحة التي تم فيها العرض فإنهم استطاعوا ان يقدموا لنا نماذج وأنواع مختلفة، من النباتات والزهور الآسيوية والموجودة تحديداً في كوريا، مسقط رأس مبدع هذا العمل بطريقة فنية راقية ومبتكرة. 

لدى خروجنا من مبنى جانيسيس ظهرت لنا في الجهة المقابلة له حديقة ملفتة للنظر ولا تشبه أي من الحدائق التي زرتها من قبل؛ في نيويورك أو في أي من المدن الاميركية الأخرى. استوقفنا المشهد فقررنا دخولها من غير ان تكون ضمن جدول زيارتنا لذلك اليوم. تيمناً بالمثل القائل؛ “رب صدفةٍ خير من ميعاد”.!

لطالما قرأت عن حدائق بابل المعلقة في العراق، والتي كان البعض يعدها من عجائب الدنيا السبع والبعض الآخر اعتبرها مجرد أساطير…

ما رأته عيناي في تلك الحديقة كان صورة لما رسمته في خيالي لتلك الجنائن.!

لا شك ان المهندسين الذي ابتدعوا فكرة انشائها قد استوحوا فكرتها من التاريخ، من جنائن بابل المعلقة، وحاولوا تنفيذها بطريقة حديثة فكانت بصورتها التي هي عليها.

الحديقة بكاملها تم انشاؤها على جسور إسمنتية متصلة ببعضها وممتدة فوق مساحة واسعة من الماء، فوق نهر الهدسن الذي يتوسط مدينة مانهاتن ويحولها الى مجموعة من الجزر الصغيرة، التي ترتفع عليها ناطحات السحاب منذ ما يزيد عن مئة عام. واجهة الحديقة الأمامية صممت على شكل سلسلة من أحواض النباتات المرتفعة المترابطة، التي تشبه مجموعة من الفطر أو زنابق الماء، التي كانت تطل منها بوضوح بعض الأغصان الخضراء…

الدخول الى الحديقة كان عبر جسر اسمنتي عريض يمتد من الشارع المقابل ويتطاول فوق الماء (مياه نهر الهدسن). حتى يصل مدخل الحديقة المتسع، والذي يسمح برؤية الخضرة الممتدة داخل الحديقة ونباتاتها وأزهارها من الخارج. 

التجول داخل الحديقة كان يتم اما بسلوك ممرات ترابية مصقولة، او صعود سلالم حجرية متوزعة في كل الاتجاهات وبين هذه الممرات والسلالم، وعلى جانبيها غرست انواع مختلفة من النباتات والزهور البرية اضافة الى انواع خاصة من الورود الجورية بألوان مختلفة وبروائح عطرية كانت تملأ المكان. اما الأشجار فكانت وارفة ومتشابكة الأغصان بالرغم من أن الحديقة لم يمضِ على انشائها سوى أربع سنوات فقط كما عرفت لاحقاً. فالحديقة بنيت في العام،2021 بجهود العديد من المهندسين المبدعين، وأطلق عليها اسم ” little Island “ اي الجزيرة الصغيرة، وهي إضافة الى أنها تتميز بإطلالات خلابة على نهر هدسون وأفق مانهاتن، ما جعلها وجهة شهيرة للسكان المحليين والسياح على حد سواء. فإنها تستقبل العديد من الأنشطة الفنية والموسيقية على مدار العام.

وتضم هذه الحديقة المعلقة على جسور اسمنتية أكثر من ثلاثمئة وخمسين نوعاً من النباتات والزهور المختلفة والتي غرست ونسقت بطريقة طبيعية لتوهم الزائر بأنها قد نبتت طبيعياً دون أي تدخل بشريّ، وبأن المكان غابة جبلية حقيقية.

بعد صعودنا وبلوغنا أعلى نقطة في الحديقة تمكننا من مشاهدة مباني مانهاتن من كل الجهات، كما ظهر لنا تمثال الحرية في؛ ليبرتي ابلاند ولكن عن بعد.

واذا ما انحدرنا بالنظر الى الأسفل رأينا الماء يحيط بنا من كل الجهات وكأننا في جزيرة صغيرة لكنها مرتفعة عن سطح الماء.!

بعد التجول لأكثر من ساعة هبطنا عبر احد الممرات الى الساحة الأرضية حيث انتشرت عدة استراحات مع أكشاك صغيرة تقوم على خدمة المتنزهين وتقديم بعض المأكولات السريعة. فكانت لنا فرصة للاستراحة قليلاً وتناول كأسٍ من الليمونادة المثلجة في أجواء الحرارة التي ارتفعت فجاة ذلك اليوم فوق معدلها المعتاد.!

قضينا داخل ” الجزيرة الصغيرة” ما يزيد عن الساعتين لم أحس خلالها بمرور الوقت لأنني كنت بحاجة لقضاء بعض الوقت في أحضان الطبيعة مع بداية الربيع وبعد انقطاع قسري دام خلال أشهر الشتاء الباردة في نيويورك.

غادرنا المكان وما زال في برنامجنا لذلك النهار

حضور عرض برادا الفني، الذي يقام في Terminal Warehouse والذي يبعد مسافة ربع ساعة بالسيارة عن ” الجزيرة الصغيرة “.

كان من الصعب علي التواجد داخل قاعات مقفلة وقليلة الانارة بعد ان عشت لساعتين في ذلك الفضاء الممتد ما بين خضرة الأشجار وزرقة الماء والسماء.. 

ولكن كان لا بد من انهاء برنامجنا الذي خططنا له فتوجهنا الى المكان المقصود.

انتظرنا حوالي ساعة بداية العرض الذي استمر لحوالي أربعين دقيقة فقط.

كان عرض الأزياء الذي شاهدناه مختلفاً عن العروض التي شاهدتها سابقاً على شاشة التلفاز؛ فلا مقاعد للحضور ولا منصة يتمشى عليها العارضون والعارضات…

كان عرضاً تفاعلياً بمفهوم جديد، حيث كان العارضون و العارضات يتنقلون بين الحضور بأزيائهم الغريبة ووجوهم المطلية بمسحوق أبيض اعطاهم شكلاً غرائبياً يتناسب وجو المناسبة…

تخلل العرض وصلة غناء قصيرة باللغة العربية أدتها فتاة تحمل ملامح بدوية بشعر اسود كثيف.

وانتهى العرض برقصة جماعية لجميع العارضين والعارضات معاً على أنغام موسيقى غربية صاخبة حيث تحلق حولهم الحضور يحاولون تسجيل اللحظة بهواتفهم المحمولة…

خرجنا من المكان قرابة الرابعة بعد الظهر ننشد الراحة بعد هذا النهار الطويل. ثم قصدنا مطعما يقدم مأكولات لبنانية نزولا عند رغبة صديقة اميركية كانت ترافقنا. وكم كانت دهشتي شديدة عندما رأيتها تطلب وجبة من الفلافل المقلية مع السلطة والأرز بالشعيرية….

غادرت مانهاتن في طريق عودتنا الى دغلستون بانطباع جديد عن تنوع الأجواء داخل هذه المدينة، التي ما زالت تفاجئني وتدهشني على الدوام.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.