تلقين الحلم الضال

تلقين الحلم الضال

اللوحة: الفنان النمساوي كيرت هيبك

أتذكر في شبابي صديق لي؛ كلما مرت أمامنا سيارة مرسيدس يقول في استظراف وانفعال بالغ: «أركبها فقط ساعة ولو كان الثمن أنْ تَدْهسني»، كلمات تقال على سبيل المزاح أو المبالغة، ولكن؛ تعكس الانهيار النفسي أمام بريق المغريات العملاقة.

عندما يكون الإنسان مريضا بمرض مزمن في الرئة، يكون أثمن ما في العالم بالنسبة له هي أدوية شفائه، تنبع القِيمة من قدر الحاجة الماسَّة للشيء، ففي الصحراء يكون الماء هو الدنيا وتصبح الجواهر والرمال سواء.

«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ».. (الروم – 60) هذه الآية أحبها كثيرا وأتخذها دائما مثالا تطبيقيا حين أهم بالاندفاع بدون وعي.

***

أتخيل جمع من الناس في قاعة سينما ثم صرخ شخص فيهم وقال: (المبنى يحترق!)، سوف يهرع الناس في فزع ويتكدسوا ويتزاحموا، وقد يقتل أو يصاب أعداد كبيرة نتيجة الهلع والتدافع، ثم يُكتشف أنَّه كان خبرا كاذبا!.

المشاهدون كانوا في حالة اتزان وسلام في في السينما، ثم جاء من استخفهم فهرعوا دون تفكير، ولم يتريث أحد ليتأكد من الخبر أو يقوم بترتيب وتنظيم خروج الناس، فأعز ما يملك الإنسان في تلك اللحظة، الاحتفاظ برباطة جأشه وإعمال العقل والسيطرة على العاطفة.

أعتقد أنَّ أغلب الشعوب المصرية والعربية تحيا الحياة، كل الحياة، وهي مستخفة، تهرع هنا وهناك لكل نداء، بلا وعي ولا يقين ولا تفكير، كأنه السحر.

***

أعتبر فيلم الشيطانة ترتدي برادا The Devil Wears Prada من أعظم الأفلام التي شاهدتها، لأنه يجسد الداء العضال ومعه الدواء السحري لمرضنا المصري والعربي. الجملة التي تعبر عن جوهر الفيلم وقيمته هي: «هناك مليون بنت تَقتل نفسها من أجل أن تنال وظيفتك».

يحكي عن فتاة ذكية تشتغل في مكان عالمي لصناعة الموضة، فالسيدة الشهيرة التي تقود المؤسسة ضاقت ذرعا بالفتيات الحاصلات على شهادات عليا وخِبرات في مجال الموضة، قررت تجربة تعيين شخصية بعيدة عن المجال، ربما تضيف للصنعة ما تبحث عنه السيدة الشهيرة، وتقدمت الفتاة التي ترتدي ثيابا بسيطة وعملية، ولا تعرف أي شيء عن هذا المجال، نجحت بسبب موهبتها وأثبتت كفاءتها.

وجدت البنت نفسها تُدفع بقوة للاندماج في ماكينة العمل بضراوة، تناغمت مع حياة متوترة وعصبية، انضمت إلى سباق حامي الوطيس لإثبات الفناء في عبودية هذه الشخصية القوية، فكرَست حياتها لتلبية أي فكرة تخطر ببال سيدتها التي تمثل الإله والنموذج والمثال، الكل ينظر إليها هكذا، الكل يأمل في رضا النجمة الشهيرة وكأنها القضاء والقدر، ولكن كما يقول المثل «النجاح لا بد أن يصاحبه فشل»، فكان لا بد أن ينفرط من البنت علاقات ناجحة كسبتها قبل الالتحاق بالوظيفة، فتوترت علاقتها بمن تحب.

***

أتذكر مشهدا لمدرس طلب من الطفل أنْ يصفع زميله لأنه أخطأ، هدده أنَّه سوف يصفعه صفعات قوية متتالية إنْ لم يصفع زميله، ولا يجد الطفل حلا سوى أنْ يطيع الأمر ويصفع زميله، ومع الصفعة ينطبع في الطفل أول ندبة ذل وقسوة وهزيمة نفسية، ما حال هذا الطفل عندما ينال في كل مرحلة من عمره ضغطا مماثلا؛ يجعله يطأ أو يُحطم الآخر من أجل أن يَعفي نفسه من ألم أو خسارة، أو جلبا لمصلحة أو مطمع شخصي، فيحيا بالدرس الأول الذي تعلمه مبكرا، حياة الصراع والأنا!. كم طفل يمتلك الوعي ليقول للمدرس: «لن أطيعك ولن أصفع زميلي»

وهل للأطفال وعي؟، أغلبنا يظل طفلا حتى نغادر الدنيا، كلنا يُجبر مبكرا ويُستَخف في لحظة قلة وعي، فيأكل التفاحة من الشجرة المحرمة، ثم يطرد من فردوس راحة البال والحرية والبراءة والضمير، يصبح مثل كل الناس يمشي بعار اغتيال براءته المبكر والمتكرر.

***

هناك ظاهرة تنبع من فكرة الاستخفاف التي في الآية القرآنية، فكرة أن في لحظة استرخاء يقوم شخص بالهجوم بضغط نفسي مفاجئ يدفعك للجري دون تفكير، فتتحول من السكون التام إلى الحركة المندفعة دون وعي، هذا هو معنى الاستخفاف، ومثله حين ينغمس شخص في المجموع فيَطْفوا فيهم مثل؛ الريشة فوق الماء أو في الهواء:

«شخص يشتغل في شركة مقاولات، يجد الموظفين؛ يزَوِّرون الفواتير، يتلقون سمسرة من نشاطهم الوظيفي، ينافقون بعضهم ورؤساءهم كي ينالوا ميزة أو استثناء، يكون الشخص بريئا ونقيا وشهما وتقيا قبل دخوله الشركة، وتمر الأيام ويتحول تدريجيا لشخص آخر، يتحول لنفس نموذج كل الموظفين المغتال ضميرهم في الشركة، فالعدوى طالته وغمرته وصبغته وغيَّرته.

في هذه الحالة هناك احتمالان: الاحتمال المتكرر والغالب.. أن يستمر طفوه في تيار الشركة القذر.

الاحتمال النادر.. أن يستغرب نفسه وهي تتغير فيفيق ويسترد طهارته.

***

في الفيلم أصابت الفتاة عدوى التسابق والقسوة، وجدت نفسها تتسابق من أجل شنطة أو حذاء أو حِزام أو فستان، فهي تعمل مع أرقى دار تصميم أزياء في العالم، تأمرها النجمة أن تخبر زميلتها الآن بخبر يصدمها ويحطمها، ولو لم تفعل فسوف تطرد، فتضطر أن تفعل وهي لا تصدق تلك القسوة التي تندفع منها، وتتعذب وهي ترى الزميلة تنهار في البكاء، ثم في أثناء حفل عالمي يتمنى حضوره الجميع، ترى سيدتها ذات المشاعر الخشبية ينفطر قلبها وهي لا تستطيع مقاومة البكاء والانهيار، باحت لها أنَّ زوجها الأخير، سوف يطلقها وسوف تنتشر الأخبار في كل الصحف، تبكي أنها عجزت ثانية وثالثة ورابعة عن الحفاظ على زوج ورعاية أولادها، فجاذبية الأضواء والتربع على القمة كان ثمنه غاليا، شاهدتها تعيسة وهي تمسك بجمر التربع على القمة.

وفي السيارة وهم عائدون، أخبرت الفتاة أنها ترى فيها وريثتها في المستقبل، وبهذا فهي مرشحة لتكون النجمة الأعلى، وهبطا من السيارة لتسبح النجمة الشهيرة في بحرها، وتختلط بالجمهور والكاميرات والصحافة، ثم تنظر وراءها فتجد الفتاة من بعيد ترحل، ونجت الفتاة من فخ الشقاء والعسل الذي يقع فيه كل الناس، أن يلقنوا أحلاما وطباعا وأخلاقا ومشاعر غريبة عنهم ولم تنبع منهم، وفازت بحبيبها ثانية وتزوجته واستردت أصدقاءها وهناء حياتها.

منْ منَّا السعيد الذي نَجا من هذا الفخ اللذيذ والشقي؟

***

يذكرني هذا الفيلم بآخر يعزف على نفس الحكمة، تلقين الحلم، فيلم عائلة جونز (The Joneses)، عائلة مزيفة، تشتغل عند شركة تنتج أشياء مختلفة فارهة مترفة، الأسرة موظفون بالشركة ينتقلون للمدينة في مظهر زوج وزوجة وأبناء وبنات، ويصبح كل ما يرتدوه ويأكلوه ويشربوه وأثاث بيتهم يمثل معرض منتجات الشركة، تظهر المنتجات عليهم.. الأثاث العطور الأدوات السيارة الملابس الطعام.. كل منتجات الشركة المتكاملة تعرض على الأسرة المتظاهرة بالسعادة، ولا جدال في أن البضاعة هي سبب سعادتهم المزعومة، وكأنهم ماكيت بشري ناطق ومتفاعل، حققت الأسرة المزيفة المعادلة الصعبة وربما المستحيلة، ثراء فاحش وسعادة كاملة ومشاعر حب سينمائية وقبلات ساخنة وكلمات حنونة وراقية ودفء أسري، أسرة مثالية تملك أشياء مدهشة تزغلل العين وترعش القلب، سعادة تمشي على الأرض، وبهذا ينخدع الجيران بالمعادلة المشبوهة، ويسارع أهل المدينة لشراء أدوات السعادة، مثل من يتناول بعصبية ولهفة حبوب الانتشاء لينتشي، ولكن ماذا حدث؟ 

حدث بالمدينة طفرة شرائية استهلاكية فوق طاقتها، تم تلقين أهل المدينة الحلم الزائف، ولا بد أن هذه الطفرة سيكون لها ضحايا، فمن طبيعة أغلب الطفرات أنها غير عاقلة، سقط الجميع في فخ إدمان الشراء، إلى أن حدثت فاجعة، شخص سعى وراء هذا الوهم فاستدان وفشل وانتحر، أصبحت هذه الخدعة أداة للقتل النظيف، فلا توجد جريمة مادية، وكما يقول المثل «أذل الحرص أعناق الرجال».

أثناء ممارسة تلك الأسرة المزيفة للخدعة، تطورت مشاعر الأب المزيف، أحب دور الأسرة، اشتهى أن تكون له أسرة حقيقية، اختلطت أحاسيسه فشعر ببعض متعة في السكون إلى أسرة، حتى لو كانت شبه أسرة، وهنا أصبح كالطفل الذي لعب بالكبريت فاحترق، حنينه إلى أسرة جعله يشعر بفداحة جريمته وبألم ضحاياه، فانفعل أمام جثة المنتحر، فاعترف للناس بجريمته، ولكن هذا قتل معنوي مع سبق الإصرار والترصد، فلا مساءلة ولا عقاب، وخرج من اللعبة لينجو ببقية نفسه، ثم عاد ليسترد زوجته المزعومة ويقنعها بأن تنضم له وتزوجها ثم سألها: “ما أسمك؟”

فيلم جميل يُظهر الاحتلال الرأسمالي المتوحش الذي ابتلع الشعوب، يذكرنا بوروتانا سينما مش هتقدر تغمض عينيك، وينبهنا للفخاخ اللذيذة. الفخاخ التي تلقن أشواقنا وخيالنا الحلم الضال.


اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.