د. حمد جارالله ياسين
في مجموعته القصصية (الماوراء) يقدم سليم الشيخلي نماذج سردية توزعت بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، ومن الملاحظ على عنوانات القصص تنوعها الدلالي، لكنها في المحصلة النهائية ترتبط من قريب او بعيد بخيط صلة ضمني مع العنوان العام/ الرئيس للمجموعة(الماوراء) الذي يمثل واحدة من قصصها، فمعظم القصص تعالج أحداثا إما وقعت في الماضي (الماوراء) أو تتضمن دلالات أخرى (ماوراء) بنيتها اللغوية أو البلاغية الظاهرة.
قصة (الماوراء) ترسم صورة لشخصية الجد العجوز المريض الذي يعيش بجسده مع العائلة بينما ذاكرته قد رحلت نحو الماضي ومافيه من نشاط سياسي له ولأصدقائه.. فهو ينتمي إلى ذلك الزمن أكثر من انتمائه للحاضر تحت ضغوط حالة مرضية هي نتاج الشيخوخة التي تدفع بذاكرة الجد إلى الماوراء زمنيا فلا يعود إلى لحظة الحاضر إلا بالموت الذي يستوقف رحيله نحو الماضي ليتركه جثة هامدة. أما الجدة فتعاتبه لأنه لم يسمح لها بمرافقته في سفرة الموت، وهي من شاركته في مسيرته الحياتية والسياسية.
إن مفهوم الحرية الذي تشبعت به شخصية الجد سياسيا وروحيا. يتجسد في توصيف الجدة لشخصيته (تعرفه عنيدا كالثور المجنح نصفه داخل المبنى والآخر يشم هواء المدينة).
ويبدو أن سنوات الحرمان من الحرية السياسية وجدت منفذا لها بعد فوات الأوان، إذ إنها تمظهرت في سياق مرضي ترافق مع فقدانه للذاكرة، والصحة المتدهورة، مما جعل الحرية التي كان يبحث عنها تتجلى بشكل تصرفات غير منطقية تزجه في تخيلات وهمية يلتقي فيها بأصدقاء الماضي، ويتحرك في سياق أحداث مضت منذ عقود، تمتد إلى يوم الرابع عشر من تموز في العراق، وأيام النضال اليساري ورفاقه المقربين منه.
ويبدو أن موضوعة الحرية لاسيما السياسية المفقودة أو المقموعة أو الحلم تشكل محورا مهيمنا في نصوص المجموعة، إذ إنها تحضر في أكثر من قصة، كما في القصة القصيرة جدا (الحبر السري):
“ظل مطبق الحرفين حتى تمكن من بناء وطن داخل كوخه بيده وحده. في حفل وضع الطابوقة الأخيرة اكتشف انه لم يفتح أي شباك ولم يتواصل مع الدرب بباب يقوده للصباح، أطبق عينيه على عالمه وراح يتنفس ببطء.”
فغياب الحرية في الفضاء السياسي تحول بمرور الوقت إلى ثقافة مهيمنة في سلوك الشخصية، تتغلغل في تفاصيل حياتها اليومية التي تعبر في هذا النص القصير عن موقفها الرمزي المعبر عن ذلك الغياب بغياب الشباك من المبنى، فضلا عن غياب الباب!. وكلاهما منفذ للتواصل مع العالم والاخرين. وفي ذلك مفارقة تمثل الضربة الشعرية المناسبة لخاتمة القصة القصيرة جدا.
إن التغييب القسري للإنسان والناتج عن سلوك سلطة تغيب الحريات، يتحول إلى عناد في سلوك بعض الشخصيات كما في شخصية الجد في قصة الماوراء الذي يصر على التجول خارج المنزل على الرغم من مرضه الشديد، وكذلك في الشخصية المسماة ب (غزوان) في قصة قصيرة جدا تحمل الاسم نفسه عنوانا لها، وعلى الرغم من كونه اسما لعلم محدد إلا انه يصلح لكل إنسان يمتلك ذلك العناد القوي الذي يدفعه إلى سلوك رمزي مواجه لسلط التغييب التي تمارسها قوى القمع:
(لثلاثة أيام يوزع القهوة والأمل للأحياء الموتى بعناد خرافي مثلما كان في حياته. )
فالمفارقة تكمن في هذا الوصف (الأحياء الموتى) وفي سلوك الشخصية المعاند أيضا، ولعل السخرية تكمن في كونهم أحياء لكنهم غير محصنين من الموت القسري بأفعال السلطة في أية لحظة تجاههم. مع ذلك يبقى الأمل غاية في أفق الحالمين بالحرية.
إن ما يؤلم الشخصيات في هذه المجموعة كونها تعيش في فضاءات مترفة بالخيرات ومع ذلك مصيرها الجوع والإذلال تحت وصاية الغرباء وهذا ما نجده مثلا في قصة (مدد)، التي توظف الألوان للدلالة على تنوع خيرات البلاد (العراق) من نفط ومياه وزراعة وغيرها، إلا أن الإنسان في المحصلة النهائية يضطر للعيش تحت ذل المساعدات الأمريكية كنوع آخر من المفارقات التي تنهض عليها حياة الإنسان:
(فرش خريطة الوطن تأملها الأخضر مناطق زراعية الأزرق انهر وبحيرات الأحمر آبار الزيت.. مناجم فوسفات.. آثار وضع عليها صندوق المساعدات الأمريكية وراح يتعشى..)
إن الأمل يتجسد أحيانا بشكل رمزي في الماضي أو في الحكايات الأسطورية للجد التي تصير (كضياء محطة أور العتيقة) كما في قصة (إغفاءة) ويبدو أن المدينة الحلم التي ينتظر الوصول إليها لن تكون سوى صورة متخيلة في داخله (أثث مدينة داخله وسكنها ليتناسى الألم واللذة… تركه الآخرون) نلمح ذلك الوصف في قصة (متاهات).
إن الشخصية التي يشكلها القاص في معظم نصوصه، تتأرجح بين الماضي والحاضر بين الحرية والقمع بين الواقع والحلم، وفي سياقات من المفارقات الحادة والصادمة في الحدث أحيانا كما في قصة (حفنة ماء) أو الوصف كما في قصة (صالح الجنوبي) الذي يقول فيه:
(أصر على الوصول إلى منبع الفجر، عضته عروس الثورات. لدغته الحروب الخرافية، حاصره الزمن بكلاليب واقنعة. وصل جريحا يشم مسحوق انتصار، ابتسم عميقا وسامح الزمن).
إن فضاء القصة ا لقصيرة جدا تستقطبه اللغة الشعرية فينجذب نحوها مستفيدا من قدرتها على الترميز والمجاز مما يوفر للقصة التكثيف والاختصار. وهذه السمات نجدها في لغة القصة السابقة. وكذلك في قصصه (بين الحلم والسحب) و(فوق السحاب) و (انسجام) و (سومرية)…
كما ان مساحة القصة القصيرة جدا لا تتحمل فنيا أي تفصيل أو إطالة حتى في اختيار العنوانات لذلك نجد اغلب القصص تختار عنوانات مفردة نكرة لا تفصح عن المضمون بنحو مباشر، بل إنها بتنكيرها ورمزيتها غالبا ما تسهم في صناعة شعرية القصة وجذب المتلقي كما في قصص: انتماء/ وجد/ متاهات، حياد/ قمامة/ أنابيب/ حواء/ سومرية/ انسجام/ شبكة/ فتافيت/ مدد/ إغفاءة/ انصار.
في كثير من القصص تتجلى ملامح خراب في الفضاء الذي تدور فيه الأحداث، لكن القاص يغلف ذلك بالرموز وبأسلوب ساخر كما في قصته (سارة والخوذة) التي تدور أحداثها بين دجاجة اسمها سارة وجندي وصراع بين الاثنين حول خوذة سقطت في قن الدجاج لتتخذ منها ملاذا آمنا لبيضها، وبمعنى ساخر تتحول الخوذة كعلامة من علامات الحرب فاحتمالية الموت إلى علامة للسلام والحياة باحتوائها لبيض الدجاجة!
إنها لعبة المفارقة التي تنهض عليها شعرية السرد عند القاص سليم الشيخلي، ولعل الصراع يبدأ بعودة الجندي باحثا عن خوذته التي سقطت ليجدها بين الدجاج، فيسحبها مرة إليه ومرة يسحبها الدجاج إلى القن. وهكذا كأن حربا ما جديدة وقعت بين الطرفين على الرغم من الخلل في الموازين بين الطرفين من جهة الإمكانيات والقوة، لكنها لعبة ترميزية تشير إلى الصراع البشري بين قوتين مختلفتين.
إن الصراع بين السلطة السياسية أو الاجتماعية وبين الفرد الساعي إلى نيل حريته يشكل محورا آخر في المجموعة كما في قصة (تصادم) و (بوكر).
وتنحو قصص أخرى منحا سرياليا في الوصف التصويري فنقرا للشخصية في قصة (حدث ذات… ) قولها واصفة مجموعة من الصور التي لارابط بينها إلا إذا تخيلها القاريء بمنطق المونتاج السينمائي الساخر:
أحس بارتياح ومشى نحو النور متأملا لوحات يتذكر منها الجورنيكا، صرخة سامي محمد، تمثال الحرية ببدلة رقص شرقية، امرأة عارية، بوستر لفلم زد، وكرسي كهربائي….
فلو ربطنا بين تمثال الحرية وما اكتسى به من ثياب الرقص لوجدنا أن الحرية اتخذت زيا آخر يحصر الحرية بحرية الجسد ومتعته، في حين أن الحرية برمز التمثال يراد منها اكبر من ذلك المعنى المبتذل– ولو ظاهريا واجتماعيا – في العالم الشرقي. أما لوحة الجورنيكا لبيكاسو التي صور فيها الخراب الذي حل بمدينة جورنيكا الأسبانية نتيجة الحرب فان حضورها هنا في القصة ينسجم مع الخراب الذي يحس به البطل في فضاء القمع والقهر والحروب المتتالية ومن ثم فان وضع الجورنيكا كصورة قرب صورة تمثال الحرية بزي الراقصة، يعطي انطباعا إلى حال الفوضى واللامعقول وانقلاب المعايير.. الذي يسير عليه العالم.
وعبر هذه الجولة النقدية في قصص سليم الشيخلي، يتبين لنا أن القاص يسرد ويؤرخ في آن واحد لفضاء الماضي العراقي، لاسيما بملامحه السياسية، فضلا عن تشخيصه لسلبيات الحاضر في ظل المتغيرات الجديدة التي حدثت بعد الاحتلال الامريكي للعراق، وبين الزمنين يعيش القاص احساسات عالية بالمفارقة التي تهيمن على رؤيته للحياة لاسيما في جانبها السياسي المرتبط بالماضي والممتد لاحقا في ما آل إليه الحلم بالتغيير إلى ماهو غير متوقع من مفاجآت، في ظل تأرجح القاص بين الواقع والحلم، والحرية والقمع.
الدكتور حمد جارالله ياسين أستاذ في كلية الآداب – جامعة الموصل.
الماوراء (مجموعة قصصية): سليم الشيخلي، ط1، 2013، نوفابلس للنشر والتوزيع.