رمان قندهار.. دراسة في الشعر النسائي الشعبي بأفغانستان

رمان قندهار.. دراسة في الشعر النسائي الشعبي بأفغانستان

اللوحة: الفنان الفرنسي أنطوان كالبيت

سليم الشيخلي

تتنفس شعراً من داخل سجنها وترسم عالمها الإخضر وزند حبيبها خيمة. تمسح داخلها تعب يوم كامل في ظل رجل- أب أو زوج- يعاملها كبضاعة شبحية غير موجودة، إنها تصنع للمستحيل صوتاً شعرياً يكشف عن وجهها الآخر ونسمع من خلاله نحيب أنثى وغضبها المكسور في شعر شعبي خلاب.

يبدع أرباب الشعر الشعبي الشفاهي خارج النظرية الأدبية، فهم لا يملكون مختبراً ولا يخضعون لسلطان يتوجب عليهم قداسته فيحافظون على مؤلفاتهم من التأثيرات الخارجية ويمنحونها بكل عفوية أصدائها الرمزية والتي يسمع من خلالها صوت شعب باسره.

توصل الشعر الشعبي الى خلق نماذج مختلفة ذات قواعد خاصة ارتبطت بقوافيها وأوزانها بالغناء الدنيوي, بهمومه وقلقله، فرحه ولذاته، غناء يتغذى من الحب، الطبيعة، الحرب، الشرف، الجمال، العار والموت.

إن للمرأة الافغانية حضور قوي وفعال تفرض نفسها كمبدعة ومؤلفة لعدة اناشيد أهمها(اللاندي) واللاندي تمعنى(الموجزة) قصيدة قصيرة جداً تتألف من مقطعين من الشعر الحر، الاول من تسعة أبيات والثاني من ثلاثة عشر بيتاً نابعة من الوسط الريفي، صرخة من القلب تمر كالبرق باختصارها وإيقاعها.

عندما تذهب الفتيات لجلب الماء من النبع أو عندما يغنين ويرقصن في الاعراس يرتجلن (لاندي) جديدة، ترسخ أحسنها في الذاكرة الجماعية.

فاللاندي البشتونية النسائية البسيطة، الهشة والجميلة مثل الزهور البرية التي تتفتح حول القرى في السهول والجبال، تولد بدون رعاية أو تهيئة خاصة خارج الحقل الثقافي وبالتالي الاجتماعي.

وإن كانت المرأة تفرض بانتحارها فعلاً منبوذاً اجتماعيا فهي تخلق بغنائها تحدياً مماثلاً من شانه أن يكون قاتلاً لأن أغانيها تحمل دائماً الدم في الحب والشرف والموت.

لأن الحب من المحرمات وخطيئة كبرى فالشباب لا يتمتعون بحق التعارف ومن يخالف قوانين القبيلة فغالباً ما يكون مصيره الموت الذي يفتتح سلسة من الثارات بالنسبة للرجال أما الفتيات فيخضعن لنظام التبادل فالقانون العشائري يتحكم في اختيار أزواجهن دون أخذ المشاعر بعين الاعتبار، لذا كان اللحن المستمر في اللاندي صرخة لفراق حبيب وألم من واقع لا يرحم.

” أعطاني القدر زوجاً

طفلاً أربيه

ولكني ألهي.. حينما يكبر

ويصير قوياً

ساصبح عجوزاً واهنة.

***

” كم انتم قساة

تشاهدون العجوز

يجرني الى مضجعه

ثم تتساءلون

لماذا أبكي وأشد من شعري.”

***

تعتبر المرأة المعبرة عن ترمدها في مجال الحب غاية في الفصاحة في حقول الشوك والموت فتراها تتغزل بجسدها ولا تترد في البوح عن رغباتها دون الخوف من الاصطدام بالفضيحة:

أنا أحب/ انا أحب

لا أخفي ولا أنكر

حتى لو أقتلعوا بالسكين

كل شاماتي

***

ارح فمك على فمي

وأطلق لساني

ليحدثك عن الحب

***

حبيبي، أدْنُ مني

إن يمنعك الخجل

من لمسي

سأجذبك انا

بين ذراعي

***

تبنى هذه الأشعار على جدلية الحب والموت وحين تدعوه الى لعبة الحب فإنها تقلب المنظومة الذكورية ضده في لعبة خطرة تعرف إنها ستدفع الثمن:

جميلة أنا بجوارك

أهديك فمي

وافتح ذراعي

وأنت كالجبان

تستسلم للنوم

***

إذا كنت تريد دفء حضني

جازف بحياتك

فالذي يريد الحفاظ على رأسه

يعانق الغبار لا الحب

***

هات يديك يا حبيب

وهيا الى الحقول

لنتعشق أو نقع معاً

تحت طعنات الخناجر

***

إن مصدر كمائن الخطورة في الاستفزازات التي تتضمنها (اللاندي) والتي ترفض القيم التي يرتكز مجتمع الباشتون تحدث اضطرابا وقلقاً في الضمير الرجولي وقوانين الشرف، فالمرأة الرهان الاساسي لهذا القانون غير قادرة على تغييره الامر الذي يجعلها تبذل جهداً لتزيد من حدته لتصبح أناشيدها صدىً للعلاقات بين السيد والعبد، صرخات المقموع والمستبد.

لذا تحمل أشعارها ضحكة معدنية خالية من الحنان، وكأنها تقول لهم: (بما أنكم فخورون برجولتكم، وتريدون أن تلعبوا لعبة الشرف، إذن سأدخل في لعبتكم وأدفعكم الى تحمل العواقب الوخيمة لمبادئكم ذاتها).

إنها تنقلب الى كائن بشري ذي إرادة، تتسلم مقاليد أمورها بفضل أناشيدها فقط.

لقد شاهدت المرأة البشتونية الموت وتحمل تلك الفكرة المرعبة عن اللحظة النهائية لكنها تستخدم كلمة (الروح) أو ما شابه في نجواها، فهي لا تهتم بمصير الجسد، لذا تميز(الفؤاد) فهو مصدر المشاعر والامال واليأس العميق ليكون شاهداً على نفسه وبهذا تتقمص المغنية شخصيتين فتوجه الخطاب الشعري لنفسها، تتغنى بجسدها، نموه مثل الازهار البرية باعالي الجبال، نشوة عينيها المتيمة، رحيق شفاهها، شاماتها كالنجوم، نهديها الشامخين كرمان قندهار وفخذيها المخمليين، لتصبح أكثر إحساس بمرور الأيام وبالشكل العابر للوجود.

“حبيبي أسرع

أريد أن اهبك فمي

فالموت يطوف في القرية

أخشى أن يختطفني

***

حبيبي تعال اجلس لحظة بجانبي

فالحياة سرعان ما تنقلب

شتاءً عابراً عند المغيب..)

***

من خلال دراسة الشعر النسائي البشتوني يلاحظ أن هناك بعض الميزات التي قد ينفرد شعرها به يمكن تلخيصها بما يلي:

أولاً: لا توجد أي قصيدة تعبر عن الامل أو الخوف من الآخرة، فالموت عودة الى العناصر الاولية للكون.

ثانياً: لا إحساس بأنها لم تعشق كفاية، لم تتمتع بجمالها وشبابها وبالحب كما تشتهي، والحسرة على الرحيل دون إشباع جوعها.

ثالثاً: الاعتقاد بان مصيرأي حب الخيبة والفشل لذا ترتقي بأغانيها مرتبة بطلة تراجيديا.

رابعاً: إن قدرها مكتوب في فضاء شاسع لكن القانون الذكوري حمّله عدة ممنوعات.

بسيطة كالسهول العارية صافية وشفافة ومندفعة مثل المنحدرات والوديان الصخرية، جميلة وصلبة مثل جبال (الهندوكوش) التي تعكس أنوارها الزرقاء.

نماذج (لاوندية)

“في الكتمان أحترق

في الكتمان أبكي

أنا المرأة البشتونية

لا تستطيع أن تبوح بحبها”.

***

“في الليل، الشرفة القاتمة

والأسرة كثيرة

جلجلة أساوري يا حبيبي

تدلك على الطريق إلي”.

***

“حلمت البارحة

نصفي طريح الفراش

والآخر بين ذراع حبيبي”.

***

“أحولك في لحظة

الى كومة من رماد

لو صوبت نحوك

نظرتي السكرى”.

***

“ادخل يديك برفق

تحت أكمامي

فقد أزهر رمان قندهار..ونضج”.

***

اليسار

ما ذكر آنفاً يرسم صورة المرأة اللاوندية قبل اجتياح السوفييت لأفغانستان في أبريل 1978وما تبع ذلك من مجازر ارتكبت تهدف الى فرض سلام..المقابر بين الحزن والجنون نظمت النساء مظاهرات ونزلن الشوارع متحديات الدبابات لتصبح ” ناهد” رمزاً للمقاومة النسائية، غير أن الابداع لم ينته فالظروف القاسية أضافت اليه صبغة من حزن بلون جديد من الغربة والتمزق:

” أيها النسيم

الذي يصب من صوب الجبال

حيث يقاتل حبيبي

أي خبر تحمل لي؟

فتجيب الريح:

الخبر الذي أحمله

من حبيبك البعيد

هي رائحة بارود المدافع

وتراب الدمار

الذي يقتفي أثري.

ظل شبح النضال ضد الغزاة والترحال يخيم على المواضيع التي تتطرق لها (اللاندي) الجديدة على حساب صورة الزوج (البشع):

لن أتخذ من مسنٍ عشيقاً

يقضي الليل في رسم المشاريع

ويعلن رجولته عند طلوع النهار.

تدور اشعار هذه المرحلة حول اربعة مواضيع أساسية:

  • أولاً: الغربة:

تحطم قلبي هذه الحياة

على أرض الغربة

ربي عد بي

الى جبالي الشامخة.

***

حل الربيع

وأينعت الأوراق على الغصون

وفي بلدي، تحت رصاص العدو

فقدت الأشجار أغصانها.

***

  • ثانياً- المقاومة:

أخواتي إربطن الوشاح

مثل الحزام، احملن البنادق

واذهبن الى ساحة القتال.

***

تفتحت دماء الشهداء

زنابق على أرض الوطن

زنابق حمر لربيع الحرية.

***

إن لم تحمل جراحك بصدرك

فلن أبالي

حتى لو كان ظهرك

مثقوبا كالغربال.

***

حبيبي إن كنت تحبني حقاً

اذهب وحرر أرضنا

ستمتلك شفتي الى الابد.

  • ثالثا- البشيع:

ها هو البشيع يتناسى الحرب

وينام بجنبي مطمئن البال

لا يستحق فراشي

إلا من يواجه الموت من أجل الوطن.

***

(البشيع) لا يفعل شيئاً

لا الحب ولا الحرب

عندما يشبع مساءً

يصعد الى السرير

ويسمع شخيره الى الصباح.

***

إفتح ثغرة في الجدار

قبِّل شفتي

(البشيع) ماهر في البناء

وسوف يصلحه.

***

  • رابعاً- الحب:

كيف جئت، فارعاً كالسنديانة

والقمر في اكتمال

أين سأخفيك؟.

***

حبيبي اقترب لأعانقك

فأنا لبلاب رقيق

سيطويني الخريف قريباً.

***

إن كنت تجهل معنى الحب

لماذا أيقظت قلبي النائم.

***

حبيبي أسرع لإشباعها

مهرة قلبي

فقد مزقت كل الأعنقة.

طالبان

ظل الشعر الشعلة العفوية الشفاهية للبشتونية محتفظاً بأصالته لكن قدرة الارتجال واجهت قيوداً داخل الخيمة، البيت، الحجاب، والضغوطات الدينية، لم تعد تعمل في الحقل أو تسفر وجهها، وحرم الرقص والغناء حتى في الاعراس لتصبح سمكة رميت خارج النهر أو شيئاً من ممتلكات الرجل الذي لم يدرك أن هذا( الشيء) لم يعد ملكه، فالقلب بعيد والروح تهيم في وديان أفغانستان.

فالمرأة البشتونية، القاسية الحنونة، الماكرة الساذجة اللينة العنيفة أقامت مسافة بينها وبين روحها لتعيش وكأنها منفصلة عن ذاتها، فرغبتها الوحيدة العودة الى القرية لجلب الماء من العين.

يا رب المنفيين العظيم!

الى متى ستدوم الحياة

بهذه السهول القاحلة؟.

***

ينهمر الدمع على خدي

كيف لي أن أنسى

جبال كابول

وقممها المغطاة بالجليد.

***

حبيبي ليس لي ما أقدمه

سوى مكانٍ

أبنيه لك في فؤادي.

***

تزينت بثيابي القديمة

كبستان مزهر

بقرية خربة.

***

إذا مات حبيبي

فلأكن كفنه

وهكذا نعانق التراب سوية.

***

بيدي زهرة سوف تذبل

لا أعرف لمن أهديها

في هذه الأرض الغريبة

***

يا معشوقي الجميل

سيقتلونك ذات يوم

لا تهدني زهوراً بعد

منتصف الطريق

تتوقف الدراسة عن الادب الشعبي النسائي الافغاني عند هذا الحد من أيام طالبان منوهة الى أن هروبها من موضعها المأساوي يضعها أمام طريقين..الغناء أو الانتحار.

لسوء الحظ إن جامع هذه الأشعار سيد بهاء الدين مجروح قد قتل في فبراير 1988 حين فتح بابه لمجهولين في بيشاور. مزق الصدر بالرصاص في لحظة نبل وأريحية لأنه تعلم الحرية وتحدث عنها وكان صوت أولئك اللواتي لا صوت لهن، ترى هل سيأتي من يكمل مسيرة هذه الشعر في الحقبة الامريكية من حياة أفغانستان.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.