اللوحة: الفنان الأميركي جان باسكيات
حين نشاهد فيديو لطلبة في غرفة الامتحانات، يستخدم الجميع الآلة الحاسبة الحديثة عدا طالب وحيد، يعد على أصابعه رغم وجود الآلة الحاسبة في حقيبته، وفي فيديو آخر، يقوم الجميع بالعد على أصابعهم عدا طالب وحيد يستخدم الآلة الحاسبة، لا شك أن الدهشة الأكبر حين كان غالب الطلبة مستخدمين للأصابع.
***
سئل «نجيب محفوظ» عن تفضيله المشي دائما، فقال: «وهل هناك عاقل يترك المشي على قدمه ويمشي على عجلات»!
هذا الرد بليغ ومنطقي، مفهوم أنَّه يفضل المشي كثيرا لكي يحافظ على صحته ويتأمل ويمارس صيد الخاطر والفكرة ليبدع رواياته، لكنه حين يسافر يستخدم السيارة والطائرة.
الكلمات البليغة مهما كانت تعجبنا، ليست حقائق مطلقة، فالذي يحيا في قصر قد يجلس مع رفيقته في ضوء الشموع في مناسبة خاصة، ولكن لا يعقل أن يواصل حياته بدون المصباح.
***
في المرحلة الابتدائية، وقفت في الطابور الصباحي وسط فرقة العزف الموسيقية، ممسكا بآلة تسمى «الجَلاجِل»، وهي صفائح معدنية على شكل كروي وبداخلها كرات هزازة تُصدر الرنين، ومثل هذه الكرات توضع حول رقبة الحمار ليحدث صوتا يسمعه الناس ويوسعوا له الطريق، ولهذا لم أكرر التجربة.
أراد زميل لي بالمدرسة المِزاح، فأخذ ينادي عليّ بلقب «جِلجِل»، وأخذ يرددها كثيرا أملا أن يلتقطها التلاميذ فيصبح لقبي الجديد، وكان هذا الخاطر يفزعني، فهناك من وقع في هذا الفخ وظل ينادَى بلقبه الذي التصق به حتى نسينا اسمه الأصلي، وتحت تأثير الرعب الطفولي، تشاجرت معه ومع كل من ناداني بهذا اللقب، وجاء المدرس ليشهد هذا الصخب ويجدني في حالة هياج شديد، وكان مدرسا حكيما، فما كان منه إلا أن أمرني بالخروج من الفصل وخرج معي، وكان صديقا لأبي، فوقف بجانبي وقال لي: «لقد وقعت في حيلة مشهورة يا ابني، كلما زدت في غضبك كلما زادوا في إثارتك، أنت تخشى أن يلصق بك الاسم، أظهر لهم برود حين ينادي عليك أحد به، فقط لا ترد عليه ولا تبتسم أو تعبس، هذا الموقف السلبي سوف يجعلهم يتوقفوا، لأنك قطعت تسلسل اللعبة التي لعبوها عليك».
وقفت منصتا لكلام أستاذي وأنا مذهول ومندهش أن يكون الحل بهذه السهولة، ثم أدخلني الفصل، وبعد انتهاء الحصة واصل الأولاد الحيلة وأنا أنظر إليهم بوجه خشبي وكأني لا أسمع شيئا، حتى غلبهم اليأس مني وكفوا عن محاولتهم ثم نسوا كل شيء.
في هذه القصة أفادتني نصيحة الأستاذ وأفلحت في تطبيقها، فماذا لو غلبتني مشاعر الرعب والإهانة وفشلت في تطبيق النصيحة ووقعت في فخ التفاعل مع استفزازهم؟ فسأظل نفسيا وعاطفيا في مرحلة «العد على الأصبع».
***
حين تفككت دول الإتحاد السوفييتي، سارعت إيران لجذب العلماء الروس وخاصة في مجال الذرة وعلوم الصناعات الأخرى، وكانت النتيجة التي نراها اليوم، فقد أوشكت إيران على امتلاك القنبلة الذرية، وفي نفس الوقت امتلأت القنوات الفضائية العربية بالراقصات الروسيات وفرق اللهو، وانتشرت النكتة التي تتندر أنَّ «إيران استوردت علماء روس والعرب استوردوا عالِمات روس»، فمصطلح عالِمَة عندنا يطلق على الراقصة، في هذه القصة كانت إيران تتعجل في تخطي مرحلة «العد على الأصابع» بينما نحن العرب نصر على أن لا نفطم عن قضم الأظافر ومص الأصابع، والعد عليها.
***
في الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمة اليابان، قبض الأمريكان على علماء يابانيين يديرون معسكرات اعتقال في الدول التي احتلتها اليابان، وفي المعسكرات كانت تجرى تجارب شريرة على الأسرى، وفيها تحرق أعضاء الإنسان وتحقن بفيروسات، ويوضع الضحايا في ظروف صحية شديدة البؤس لأغراض علمية لدراسة وظائف الأعضاء، ويتم تعريضهم لغبار كيماوي لدراسة الجرعات وأثرها التدريجي على الإنسان، وكان الأسرى يتمنون الموت ليريحهم من الألم ولا يجدوه.
قامت أمريكا بإعلان محاكمة هؤلاء الوحوش البشرية ومعهم النازيين الذين كانت لهم معسكرات تقوم بنفس الجريمة، وتفاوضت مع هؤلاء العلماء اليابانيين والنازيين، فأعطوا أمريكا نتائج أبحاثهم وأصبحوا موظفين في معامل أمريكية مقابل العفو، في حين تم إعدام شخصيات أخرى كثيرة، وقامت دول أخرى مثل روسيا بنفس العمل.
***
هذه القصة ليست لمدح أو ذم تصرف الأمريكان والروس، ولكني أوردتها لتسليط الضوء على أن الحكم القيمي يجب أن لا ينسف خبرة الإنسان، وأنَّ كل إنسان مهما كان مسار حياته، يملك نوعا من الخبرة التي قد تنفع الناس مستقبلا وتفيد العلوم، فالكل يريد تخطي مراحل «العد على الأصابع».
***
في السينما المصرية منذ نشأت وإلى اليوم، عالجت مشكلة العجز عن الإنجاب في صورة واحدة نمطية لم تتغير ولم تتطور، شوق الزوجين للأولاد من صُلْبِهم «كما يُعَبِّرون دائما»، إخلاص الزوج/ الزوجة وصبرهم والعيش للنهاية بدون أولاد، أو عدم صبر أحدهما فيطلب الطلاق ويتزوج أو تتزوج، وتدور قصة عن التخلي والهجر، وبهذا لم تقدم لنا سينمائيا أو روائيا سوى قصة واحدة بلا حلول خارج «صندوق العد على الأصابع».
كرَّست نظرة النقص في الرجل أو المرأة بسبب عدم الإنجاب، رغم أنه إيمانيا لا يجب أن ننظر تلك النظرة، فأقدار الله لا تُنقص من الإنسان، يندر في السينما المصرية طرح حل التبني (بدون منح الاسم)، بأن يقوم الزوجان باتخاذ قرار مبكر بتبني طفل أو أكثر، ويعيشا حيات الأسرة، وبهذا يتم التنفيس عن المشاعر والخبرات والحاجات العاطفية والتربوية في أطفال يحتاجون هذه الرعاية.
في الغرب يكون الإنجاب قرارا، ربما لا يريد أحدهما الإنجاب، فيقومون بالتبني، وهذا حل عادل وحكيم وإنساني، فيه إنقاذ طفل بلا أسرة، ولو فكرنا كعرب في هذه الخطوة لفرغت الشوارع من اليتامى، ولكننا لا نفكر إلا بعقول قوم رحلوا أو قوم يقلدون الراحلين.
نتيجة فقر الخيال وقلة الفقه يكتظ الشارع باليتامى، تكثر البيوت الخالية والباردة بلا أولاد، والسبب قناعة غبية تصر على أن الولد يكون من الصلب وإلا فلا.. وأنَّ التبني يورث فتنة حين يكون المتبنى ولد أو بنت.. وهذه نظرة ذكورية أخرى كثيرا ما تتردد.. ومازال الجهل بلا حدود.
***
في بلادنا، لا يخطر ببال فرد من ملايين الأفراد أي فكرة جديدة حتى لو كانت جنونية، نحن شعب بلا جنون وبلا فنون وبلا خيال وبلا تفكير، شعب خائف من السلطة والمجتمع والغد والماضي ولا يتمنى إلا الستر، حتى لو كان عشاءه تِبن، أخلاق الفقر تغمر الأثرياء والفقراء، أخلاق الجهل تغمر المثقفين والأميين، أخلاق الكفر تغمر المتدينين والمنكرين والمسرفين، أخلاق الذل والهزيمة تغمر الجميع فأصبحنا بلا حلم.
ولهذا نحني رقبتنا لأسفل من طول العهد في «العد على الأصابع». لأننا قد نكون على قيد الحياة ولكن لسنا على قيد الحلم والأمل.
***
عند التقدم لوظيفة نعرض السيرة الذاتية المهنية، تشمل الخبرات التي نالها المتقدم نتيجة ممارسته لتخصصه، وكلما كثرت هذه الخبرات عددا وعمقا كلما كان مرشحا لمنصب أكبر ومسؤوليات أخطر، هذا بديهي بين البشر وعند العرب إلا في حالة واحدة تكون الخبرة سيئة السمعة، حين يتقدم الرجل لنيل عروس في بلادنا، فنحن لا ننظر للحياة والتجارب الماضية للمرأة كخبرة سوف تكون في صالح الحياة الزوجية، ولكن ننظر للمرأة كورقة مستهلكة بالكتابة عليها.
هناك مصطلح غبي ويقدسه العرب وهو (ذاكرة الجسد)، فالعربي يتوهم أنَّ المرأة التي خاضت تجربة سابقة وطلقت أو ترملت، تصبح كورقة منقوش عليها لغة قديمة غير قابلة للمسح، نقش سوف يُزاحم الحياة الجديدة لو شارك فيها رجل آخر، يتخيل أنَّ هناك مقارنة سوف تنطلق مع كل معاملة بين الرجل والمرأة في الحياة الجديدة، فالمطلقة أو الأرملة سوف تقارن بذاكرتها الجسدية بين زوجها الأول والزوج الثاني، وهذا جهل واختزال.
فلو كان للمرأة ذاكرة فسوف يكون أيضا للرجل ذاكرة.. فكلاهما بني آدم.. فكيف نهتم فقط بما نسميه الذاكرة الجسدية للمرأة وننفيها أو نتجاهلها في الرجل، ثم نتساهل معه في الزواج مرة وعشر بسلام؟
وعلاوة على ذلك ألا توجد أنواع أخرى من الذاكرة؟.. ذاكرة «الود والحب والقسوة والتخلي والهجر والقرب. إلخ»، لماذا نتجاهلها؟
الحياة بتجاربها خبرة.. والمرأة والرجل حين تتوقف أو تفشل التجربة الأولى، يكونون أكثر هدوءا وحكمة وسهولة في الحياة وحرصا على النجاح مع الارتباط الثاني.
لو كان عندنا حكمة وتدبر لكان الزواج بين المطلقين والأرامل من أكثر الزواجات رواجا، ولكن العقلية مازالت متجمدة وذكورية عند الرجال والنساء على حد سواء.
نحن نحجب عن أنفسنا السعادة بأفكارنا المتوارثة، ولم نفهم بعد أن الإنسان دواء وأنس للإنسان، هذه هي فقط المعادلة، وليختر الإنسان دواءه وأنسه بلا تعقيدات، هي صحبة فلا نضيعها بتفاهات.
نحن نمسك بأدوات الألم بأيدينا ونغرسها في حياتنا بإصرار، ولا أمل في أن نرحم أنفسنا، ونكف عن «العد على الأصابع».
