بغداد.. حين تتكلم القصيدة بدمها – قراءة في قصيدة «بغداد» لطارق الحلفي

بغداد.. حين تتكلم القصيدة بدمها – قراءة في قصيدة «بغداد» لطارق الحلفي

اللوحة: الفنان العراقي ماهود أحمد

سعاد الراعي

حين قرأت مجموعة القصائد التي تضمنها ديوان «امرأة من ماء البحر» للشاعر طارق الحلفي، الصادر عام 2007، وجدت نفسي أمام تجربة شعرية مترعة بحس مرهف يتدفق بمشاعر الحب والوفاء، لا للأشخاص فحسب، بل لكل ما يحلّق حوله في البر والبحر والفضاء. إنه شعر يأخذك من حيث لا تدري، يغمرك في عوالمه الرحبة، ويسحبك عبر هموم الوطن والغربة، مستندًا إلى تجربة ذاتية تجسّدت في تعدد الأمكنة والأزمنة، مما أضفى على القصائد بعدًا وجوديًّا يعمّقها ويثري معانيها، فيغدو القارئ شريكًا في هذا النسيج الشعري، وكأنه يرى نفسه مصورةً في لوحات تنبض بالحياة والانتماء والتجذر.

لست هنا بصدد استعراض الديوان بكامله، لكن قصيدة “بغداد” استوقفتني، إذ إنها ليست مجرد نص، بل مناجاة عاشق لحبيبته الأزلية، بغداد، التي تتجذر في وجدانه حتى الرمق الأخير.

ينساب الشاعر في مطلعها بنغمة حميمة، كأنه يهمس لحبيبته بفيض من الشوق والوجد. كل مقطع فيها ينبض بروح متفردة، حيث تتداخل الذات والآخر في نسيج متماسك، محاكاةٌ متقنةٌ وتناغمٌ خالٍ من النشاز، وكأن اللغة ذاتها تتهدّج تحت وطأة هذا العشق السرمدي. إن من يقرأها لا يملك إلا أن يستفيق من سباته، يتمايل بين الطرب والألم، بين الأمل والفجيعة.

تبدأ القصيدة من التيه، من البحث عن الطمأنينة في دفء الذكريات اليومية التي تتجلى بصورة خلّابة نابضة بالحركة والجمال.

لكنها ليست ذكريات ساكنة، بل حية، تمتزج بالخيال الإبداعي الواقعي، الذي يعكس تجربة الشاعر الذاتية. وتبرز في ثنايا القصيدة مفردة “عبثًا”، التي تتكرر كتعويذة، لكنها هنا تتخذ معنًى مغايرًا لمعناها القاموسي المعتاد. فحين تقترن بـ “دون”، تتحول إلى نقيضها، إذ تصبح إصرارًا قاطعًا على استحالة الفصل بين الأحداث والأثر المترتب عليها، وكأنها قسم غير قابل للنقض:

“عبثًا يأتي الصباح

دون أن أغسل في ضوئك يا عيني عيني

دون أن ألمس فوق الشفتين

زغب الجمر وأمطار الحنين

…………..

عبثًا يبسم زهر الياسمين

دون أن يولد من همسك دفء الابتهال

…………

عبثًا تصحو الحقول

دون أن تمسح بالقمح خطاك

دون أن أصعد نخل الآلهة

……….

عبثًا تعصف بي ريح الذبول

دون أن أكشف ما بي

دون أن أكتب في ذاكرة البدء وفوضى الآخرة

دون أن أحرق تاريخ القصيدة”

هكذا تتماهى الدلالات، تنبعث كأطياف تتقاطع وتتشابك، تعمّق بعضها بعضًا، ثم تتشظى لتذهب إلى ما هو أبعد.

فالقميص ليس مجرد قماش، بل رماد نديّ فوق الصدر،

والحناء تتسامى لتصبح روحًا من الانبهار فوق اليدين،

والحقول تمسح خطوات الحبيبة بالقمح،

والنخل رمز للآلهة،

والثلج جمر الداء،

والموجة صهيل،

والدم حجر، في تناص دلالي متشابك يعيد تشكيل العالم بعيون الشاعر.

ولعل ما يختتم به الشاعر قصيدته يلخص كل ما سبق، حين يقول:

فامنحيني لغة الفتح رؤى واقتربي

يا بهاء الله يا مفردة من رطب

أما المقاطع الأخيرة، فتكتنز نبوءة عميقة تتجلى كصرخة في وجه الزمن، حيث يصف الشاعر ما آل إليه العراق، رغم أن القصيدة كُتبت قبل أكثر من عقد من صدور الديوان، لكنه تنبأ بحالٍ نعيشه اليوم، فيقول:

عبثًا نقرأ للثالث ألف دفتر اللحن الجديد

…………

“قسمات الناس ذات القسمات

وضجيج الموت يضحى

ثمراً للمعطيات

هنا، لا يعود الموت حدثًا مفجعًا منفصلًا، بل يتحول إلى ضجيج رتيب، مألوفٍ حدَّ القسوة، إلى أرقام تتراكم في سجلات النسيان، إلى مأساةٍ مستمرةٍ يتجاهلها العالم بلامبالاة مريعة.

إننا أمام نصٍّ لا يُقرأ مرة واحدة، بل يحتاج إلى تأملٍ وإمعانٍ وإعادة قراءة، نصٍّ يتطلب من القارئ أن يغوص في أعماقه، أن يتنفسه، أن يتماهى معه، ليشعر بأنه ليس مجرد قصيدة، بل نبضٌ حيٌّ، يختزل وجدان أمة بأكملها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.