سلطة التقاليد واستلاب الذات.. قراءة في «إكرام الأرملة دفنها» للكاتب أيمن جبر 

سلطة التقاليد واستلاب الذات.. قراءة في «إكرام الأرملة دفنها» للكاتب أيمن جبر 

اللوحة: الفنان الإيطالي رايموندو جامبينو

قُدّر لي أن أقرأ ما يكتبه الكاتب أيمن جبر من مقالات في «حانة الشعراء» أولا بأول، ولفتني اصطياده الفكرة وأسلوبه في عرضها، ولا أعرف لم توقفت عند مقالته هذه تحديدا في كتابه الذي صدر تحت نفس العنوان: «إكرام الأرملة دفنها»؟ ربما لأني تناولت مثل هذا الحدث – ليس بنفس تفاصيله بالطبع – في قصة قصيرة لي، تتحدث عن حق المرأة في الحب والزواج بعد الخمسين، وربما لأن فكرتها تتوافق مع أفكار لدي، وحكايات تتقاطع مع حكايته؛ حتى أني ثرت ذات يوم في وجه أعز صديقاتي مدافعة عن حق الإنسان أن يعيش كما يشاء مادام يتردد في صدره أنفاس للحياة، وكان بطل الأحداث وقتها رجلا قد جاوز الستين، ومُنِي بفقد زوجته؛ فتكالب ضده كل الأبناء وأبناء الأبناء.

وما ارتأيته في تلك المقالة، وغيرها مما كتب أيمن جبر في هذا الكتاب، أن أسلوبه يمل إلى الأسلوب القصصي، لذا سأسمح لنفسي بتناولها من منظور قصصي، فنص «إكرام الأرملة… دفنها» يقدّم حكاية مركبة شديدة الإنسانية، تنسج بوعي سردي مأزقا أخلاقيا ومجتمعيا يبين كيفية التحكم في مصير الآخر باسم الأخلاق والواجب العائلي، ويناقش قضايا عديدة مثل السلطة الأخلاقية الزائفة التي يمارسها الأبناء على الآباء، وازدواجية المجتمع تجاه المرأة، خصوصا الأرملة، التي يصر على حبسها في الحزن «المقدس» ويحرمها التفكير في الحياة الجديدة، بينما يتساهل في ذلك مع الرجل الذي يقع في نفس الظروف.

والسؤال هنا: هل ما يزال يحق للرجل ـ في عصرنا هذا ـ مالا يحق للمرأة من مشاعر وممارسات؟ أله الحق في البحث عن شريك يكف به اشتعال الرغبة، ويوفر الأنس والرفقة الطيبة في أرذل العمر بينما لا يحق للمرأة ذلك؟ أليست إنسانا له نفس المشاعر والرغبات؟ إن الحياة لا تنتهي بغياب الشريك الأول، ولا انطفاء للرغبات واشتعال جذوتها بطول العمر، ومن حق الإنسان أن يكمل حياته بكامل حريته في الاختيار دونما استلاب من المجتمع تحت أي مسمى.

اعتمد نص «إكرام الأرملة… دفنها»، على صوت الراوية وضمير المتكلم، وبذلك وضع الكاتب القارئ في حضرة اعتراف يمتد لسنوات، لا يقطعه إلا محطات الألم والندم والتبصّر، وتتقاطع فيه الأعراف المجتمعية من استبداد عاطفي واستلاب  يغلفه الواجب البنوي والاضطهاد باسم العيب والحرام، إنه ليس مجرد حكاية عن فتاة رفضت زواج والدتها، بل هو صدى لسؤال مهم: من يملك القرار في حياة الآخر حين تتقاطع الرغبات العاطفية مع تقاليد المجتمع؟

ويعتمد النص على بنية اعترافية تتقاطع فيها الأزمنة بوعي سردي، حيث يبدأ من الحاضر المستيقظ على وجع الماضي، ليعيد تشكيل الوعي عبر سلسلة من الفلاشباكات المؤلمة والمراجعة الصريحة للذات، والصوت السردي بصيغة المتكلم يخلق حميمية وتماهٍ مع المتلقّي، لكنه يفضح مأساة الأنانية المقنّعة بالغيرة والحرص، فالراوية: الابنة نموذج لحارسة قيم المجتمع، والأنانية المفرطة للأبناء، تشرع سيطرتها على حياة أمها باسم الحب، لكنها لم تتخيل أن تسقط في ذات المصير، حين تجد نفسها أرملة ووحيدة ومحاطة بذات الأصوات التي سبقتها في إدانة والدتها، لتكتشف عمق المأساة البشرية حين لا يُترك الإنسان ليختار حريته، والأم: شخصية حكيمة، قوية في صمتها، تتقن المقاومة الناعمة، فهي لم تكسر القيد بالمواجهة، بل بالحكمة، والتواري خلف القبول الظاهري، والاحتفاظ بحقها في الحياة على طريقتها، وتحمي حبها بالدهاء والصبر؛ فتنتصر أخيرا دون أن تعادي أحدا، إنها تمثل التمرد الصامت الذي لا يرضخ لأحد، وجاء البناء الزمني غير الخطي يخلق نوعا من الاستنطاق العاطفي للذاكرة، حيث تُروى الحكاية لا لتبرير الفعل بل لإدانته وتحويله إلى أداة للوعي.

الصراع والتوتر الدرامي.. الأخلاق أم الحاجة؟

تكمن قوة النص في قدرته على تفكيك تصورات راسخة حول «الواجب الأخلاقي» لدى المرأة الأرملة، والتي يجبرها عليها المجتمع بأعرافه، فنرى الابنة التي تعاملت مع زواج والدتها باعتباره خيانة للأب الراحل، وتكشف لاحقًا عن امتداد هذا العرف الاجتماعي الذي يُقدّس الحداد ويجرّم الحياة بعد الفقد، غير أن النص لا يطرح هذا الصراع في صورة فلسفية مجرّدة، بل يغوص في تفاصيل الحياة اليومية: الزيارات، توزيع الأدوار بين الأبناء، النظرات، التململ. كلها عناصر تصنع من الحياة سجناً مغلَّفًا بالواجب.

ويتصاعد التوتر من مشهد الرفض القاسي لزواج الأم، مرورا بانكشاف علاقتها العرفية، ثم انكسارها، إلى اللحظة التي ترتد فيها المأساة على الابنة. هذا التوتر لا يخدم فقط البناء الفني، بل يكشف البنية النفسية العميقة للبطلة التي حكمت على أمها بنفس المصير الذي ستقع فيه لاحقًا. هنا تتجلى المفارقة التراجيدية التي تعد من أبرز نقاط القوة في النص، ويدور الحدث لا لتُطوي القصة وتصل لنهاية معروفة، بل لتؤهل للحظة التطهر الدرامي، حيث يحدث «اللقاء – الخلاص» بين الأم وزوجها الذي لم يتخل عنها، ويحدث الكشف، فكل ما عُدّ خسارة كان في الواقع مقاومة خفية لصون الذات والدفاع عن الحب والحق في الحياة، هذه اللحظة ليست فقط استردادا للكرامة، بل هي تحقيق العدالة للبطلة التي كادت تتلاشى، وتصبح الأم معادلا رمزيا لفكرة المرأة التي تبحث عن حقها في الحياة ولم تنتظر موافقة أحد ليدمغ لها هذا الحق، بل نسجت حريتها بهدوء وحكمة وإصرار. وينتهي النص بلحظة تصالح نادرة: لتعلن الأم بهدوء المنتصر، أنها كانت تعرف كل شيء وتدير حياتها دون إعلان. إنها لحظة تربك الابنة والقارئ معا، وتعيد طرح السؤال الجدلي: هل كنا على صواب حين رأينا أن الأخلاق تستقيم بمعزل عن الاحتياج والرغبات الإنسانية الفطرية المشروعة؟

التحول الدرامي في الاعتراف الهادئ للأم الذي ينتصر للحب، وتقديمها الصفح رغم الجراح. هذه المفارقة تصنع من نهاية النص رحلة تطهير داخلي للراوية – البنت، لا بالندم على فعلها فقط، بل بإدراك أن الحياة لا تتوقف عند فقد، ولا تهزم بأعراف لا تعترف بالإنسان.

أما اللغة والأسلوب، فهي سهلة سلسة، تراوحت بين التقريرية المتزنة والوجدانية المكثفة، دون أن تقع في المباشرة أو الخطابة، هناك اقتصاد لغوي وتكثيف عاطفي يخاطب وجدان المتلقي ويستأثر به، ويدفعه لمتابعة الحدث حتى النهاية. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.