ديلفري

ديلفري

اللوحة: الفنان الأميركي جان باسكيات

محمد محمود غدية

يمارس حياته باعتيادية وتكرارية، بدت وكأنها تضفي الراحة والابتسام فوق وجهه، لا يتوقف امام التفاصيل الصغيرة، لديه قدرة مدهشة على ازاحة القتامة، وقناعات ان الشمس لا يمكنه ان يرقى اليها، ولا تستطيع النزول اليه، يتبع الشمس بشغف وهي تلوح له بالمغيب، حديثه مشبع يدل على دراية شاملة والمام واسع بالأمور الحياتية، إذا تحدث اليك عن خيباته وما اكثرها في الحب، فإنك لا تملك الا الاصغاء، القلوب النصف ميتة التي قتلها الحب، لا تصلح للحياة.

نسيت اخباركم بأنه خريج آداب قسم فلسفة، ركله طابور وظائف الخريجيين، ليختار العمل على دراجة بخارية (ديلفري) توصيل الطلبات فى محل بيتزا شهير وسط البلد، يرى الدنيا بلون رمادي محايد، لا ابيض ولا اسود، لا يستطيع تعديل سلوك الناس.

شيئا فشيئا، انسحبت جحافل الخوف من ساحات صدره، يدهش لغرائبية الحياة، وتفكك الروابط الاجتماعية، وكيف لا يرى ذلك، او لعله يراها ولا يهتم.

تمنى لو احدهم خدش سكينة روحه، وهو مأسور للمدى، صاحب العمل دائم الغضب بوجهه لتأخيره، غير عابئ بتكدس المواصلات وزحمة وسط البلد، لا يكترث بنصائح زملاءه بالصراخ في وجه صاحب العمل، قائلا من بين ابتسامته: لا تخبر التمساح عن قبحه، قبل عبورك النهر! 

– ضغط جرس الشقة بالدور الرابع، بعدها كانت في استقباله مفاجأة..! 

صديقه ميسرة سليم العريشي المولد، الذي اختفى بعد تخرجهما، عشرون عاما ليست بالقليلة، عرف منه تزوجه من ابنة عمه، لديه اسرة بنين وبنات، يرعى مصالح عمه فى القاهرة، كيف لم ينتبه لزحف البياض بشعر صديقه وانسحابه للخلف، تبادلا ارقام الهاتف، ونزل الدرج وهو يتحسس شعر رأسه المتخفف من الامام، وكيف لم ينتبه؟ داهمته الشيخوخة دون اسرة وذكرى من بعده.

سكنت الأشياء من حوله، رغم قرع الطبول والضجيج بداخله، انتهت ورديته وبدلا من الذهاب لمنزله، توجه الى شجرته العجوز، المغروسة فى خاصرة الحديقة، يبثها اوجاعه بعد جمعه حصى الصدمات من قارعة الطريق، ابتسمت فى وجهه شجرته العجوز التى تحولت اغصانها الى اذرع تربت عليه، انه لم يختار قطار احلامه، مثلما فعل صديقه، انه مثل شمعة اعتصرت اوجاعها واحترقت لتضيء الطريق لأعمى!

 ابتسم مودعا شجرته العجوز قائلا: رغم كل الهزائم التى مررت بها، أراني مازلت أحيا!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.