السُّهرَورْدي الشاعر والفيلسوف الصوفي

السُّهرَورْدي الشاعر والفيلسوف الصوفي

اللوحة: الفنان الجزائري صالح المقبض

في بلدة تحتضنها الجبال، تسمى «سُهْرَورد»، بالقرب من زَنْجان الكوردستانية، ولد شهاب الدين السُّهرَورْدي في منتصف القرن السادس الهجري، وفيها تلقى أول ما تعلمه من ثقافات دينية تصوفية وفلسفية. 

وكان رغم صغر سنه كثير السفر والترحال والتنقُّل، فالسفر هوايته المفضلة، ولا يكاد ينزل ببلدة حتى يبحث عن العلماء والحكماء، ويأخذ عنهم علمهم، وعن الحكماء حكمتهم، ويصاحب الصوفية، ويُجالسهم، حتى استنار عقله وأشرقت نفسه بنور العلم والحكمة، فاستفاد منهم، ثم بدأ يرسم لنفسه طريقة مستقلة متفردة في الفكر والرأي، لكنه لم يسلم من التشنيع والمكائد حتى قُتل بسبب معتقداته الفلسفية. 

وعن مأساته يقول «فخر الدين المارديني»: « فارقنا السُّهرَورْدي متوجها إلى حلب، ولما ناظَرَ فيها الفقهاء، لم يُجاره أحد؛ فكَثُر تشنيعهم عليه، فاستحضره الملك الظاهر، واستحضر الأكابر والفُضلاء المتفنِّنة لسماع ما يجري بينهم من المباحث، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحَسُن موقعه عند الملك الظاهر، فقرَّبه وصار مكينًا عنده؛ فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيَّروها إلى صلاح الدين، وقالوا له: إن بقيَ أفسد اعتقاد الملك، وإن أُطلق أفسد أي ناحية سلك، وزادوا عليه أشياء كثيرة؛ فبعث إلى الملك الظاهر يقول: «إن هذا الشهاب لا بد من قتله، ولا سبيل إلى إطلاقه بوجه»(١)

فهل كانت هذه الحملة على السُّهرَورْدي وليدة خصومة شخصية وتبايُن في الميول والطباع، وغيرة مما امتلكه من فطنة والتماع، أم ثمرة خلاف مذهبي بينه وبين معاصريه؟

يرى بعض المستشرقين أن مقتل السُّهرَورْدي يَرجع إلى أسباب سياسية بسبب إحيائه المذهب الإسماعيلي، وأن جرأته وقسوته على معارضيه هي التي جنت عليه، حيث اعتبر ثائرًا سياسيًّا يعمل على قلب النظام، وكان مصيره كمصير الحلاج، فلولا أن الحلاج قد زج بنفسه في التيارات السياسية المضطربة في عصره، واتصاله برجال السياسة، لما حدث له شيء مما حدث من تعذيب أو صلب.

ولولا اتصال السُّهرَورْدي بالملك الظاهر، وما خشيَه السلطان من تأثير هذه الصِّلة على المذهب السنِّي الذي كان يمثله صلاح الدين، لظل السُّهرَورْدي طليقًا حرًّا يفكر كما يشاء، هذا بالإضافة ما نسب إليه من العظائم، وأنه ادَّعى النبوة، فكل ذلك كان سببًا في أن يَجمع الفقهاء أمرهم على تكفيره وإباحة دمه، والحكم عليه بالقتل. 

والسُّهرَورْدي متصوف قبل أن يكون فيلسوفًا، فهو يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا نجدها إلا عنده، وكان موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقف عند شيخ، ويأبى إلا أن يضمَّ الحكماء بعضهم إلى بعض، سواء أكانوا شرقيين أو غربيين، وكأنما كان يطبق الحديث القائل: «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها»، واستطاع أن يُنبهنا إلى دراسة المنطق والفلسفة، وما لهما من قيمة كبرى وخطر عظيم وأثر كبير في إعداد طلاب الحكمة وتثقيفهم؛ فهو يرى أنه لا بد لطالب العلم والمعرفة من أن يُلمَّ إلمامًا تامًّا بالفلسفة الأرسطية والمنطق والرياضيات والتصوف، وأن يخلص نفسه من شوائب الهوى والشهوة؛ بحيث يستطيع أن يُنمي تدريجيًّا هذه الحاسة التي تُحقِّق وتصحح ما يأخذه العقل على أنه نظري خالص، والتي تُعرف عند الصوفية باسم الذوق. فإنَّ العقل الذي يعمل وحده دون أن يكون له عون أو مؤيد من الذوق لا يصحُّ أن يوثق فيه ثقة مطلقة أو يطمأن إليه اطمئنانًا لا شبهة فيه ولا غبار عليه؛ ومن ثم كان السُّهرَورْدي حريصًا على أن يؤيد العقل بالذوق.

والسُّهرَورْدي شاعر رقيق مطبوع، لا يقل موهبة في ذلك عمن سبقه أو عاصره من الشعراء، يقول وهو يرى في نفسه أنه يستحق أن يسود الناس، وقد منحه الزمان ذلك:

وَبي أَملٌ أَنّي أَسودُ وَكَيفَ لا

وَآل بُويهٍ بَعدَ فَقرِهم سادوا

وَأَحكمُ في أَهلِ الزَّمانِ كَما أَشا

وَأَملِكُ ما صانوا وأَهدِمُ ما شادوا

وَأَفعلُ ما أَختار في كلِّ فاسِق

مِنَ الصّيد حَتّى لا تَراهُم وَقَد بادوا

ومما يدل على عشقه السفر والترحال ودعوته إلى التقلب بين الأوطان لما في ذلك من فضل، قوله:

لا يَمنَعنّك خَفض العَيشِ في دِعةٍ

مِن أَن تَبَدّل أَوطاناً بِأَوطانِ

تَلَقى بِكُلّ بِلادٍ إِن حَللتَ بِها

أَهلاً بِأَهلٍ وَإِخواناً بِإِخوانِ

وفي أبيات رقيقة تضوع رومانسية يقول:

بَيني وَبَينَكَ في المَوَدّةِ نِسبَةٌ

مَكتومَة عَن سرّ هَذا العالَمِ

نَحنُ اللّذان تعارَفَت أَرواحُنا

مِن قَبلِ خَلق اللَّه طينَةَ آدمِ

ويقول في فراق محبوبته:

وَمِمّا شَجاني أَنَّها يَومَ وَدّعت

تَوَلَّت وَماءُ العَينِ في العَينِ حائرُ

فَلَمّا أَعادَت مِن بَعيدٍ بِنَظرَةٍ

إِلَيّ اِلتفاتاً أَسلَمَته المَحاجرُ

وتلك الأبيات له، يتجلى فيها الإيقاع الموسيقي الرشيق، فهي أشبه بأنشودة موقعة مغناة، وهي قريبة من روح الموشحات، يقول:

يا مَليحاً قَد تَجلّى

فيهِ أَهلُ الحَيّ هاموا

سِيَما لَمّا تَحلّى

وَحَلا فيهِ الغَرامُ

قُلت لَمّا لاحَ يجلى

وَاِنجلى عَنّي الظَلامُ

هَكَذا العَيشُ وَإِلّا

فَعَلى العَيش السَلامُ

*** 

حَبَّذا لَمّا سَقاني

صَفوَ كَأسِ الحُبِّ صِرفا

وَحَباني بِالتَداني

وَاِنثَنَى جيداً وَعطفا

مُبعدٌ في القَلبِ حَلا

وَجَلى عَنّي الظَلام

هَكَذا العَيش وَإِلا

فَعَلى العَيشِ السَلام

*** 

يا خَليّ البالِ هَلّا

تَدخل الحان وَتَعشق

إِنّ لَيل الصَدّ وَلّى

وَصَباحُ الوَصلِ أَشرَق

وَمقامُ الحَبِّ جَلّ

لا يُضاهيهِ مَقامُ

هَكَذا العَيشُ وَإِلّا

فَعَلى العَيشِ السَلامُ

ويقول في ضرورة أن يغتنم المرء حياته، ويعيش كل لحظة فيها دون تسويف، ويسعد بكل لذات العيش لأن الأيام تمر والعمر إلى فناء:

فُز بِالنَّعيمِ فَإِنَّ عُمرَكَ يَنفذ

وَتَغنَّم الدُّنيا فَلَيسَ مُخَلّدُ

وَإِذا ظَفرت بِلذّة فَاِنهَض بِها

لا يَمنَعنّك عَن هَواكَ مَفنّدُ

وَصَل الصّبوح مَع الغَبوق فَإِنَّما

دُنياكَ يَوم واحد يَتَرَدّدُ

وَعَدُوكَ تَشرب في الجِنانِ مَدامةً

وَلتندَمَنَّ إِذا أَتاكَ المَوعدُ

كَم أُمّة هَلَكَت وَدارٌ عطّلت

وَمَساجد خربَت وَعمّرَ مَعهدُ

وَلَكم نَبيّ قَد أَتى بِشريعةٍ

قدماً وَكَم صَلّوا لَها وَتَعَبّدوا

وفي هذه الأبيات يخاطب صحبه، بأبيات فيها رؤية فلسفية شفيفة، وكأنه ينعى نفسه، ويصبرهم عند موته ويطمئنهم أنه حي، وما الجسد إلا قفص كان يسجنه، وما روحه إلا عصفور قد انطلق في سماء الحرية:

قُل لِأَصحابٍ رأَوني مَيتا

فَبَكوني إِذ رأوني حزنا

لا تَظُنّوني بِأَنّي مَيّتٌ

لَيسَ ذا المَيت وَاللَه أَنا

أَنا عصفورٌ وَهَذا قَفَصي

طِرت مِنهُ فَتَخلى رَهنا

وَأَنا اليومَ أُناجي مَلأ

وَأَرى اللَه عَياناً بِهنا

فَاِخلَعوا الأَنفُس عَن أَجسادِها

لِترونَ الحَقّ حَقّاً بَيّنا

لا تَرعكُم سَكرة المَوتِ فَما

هِيَ إِلّا اِنتِقالٌ مِن هُنا

عُنصرُ الأَرواحِ فينا واحدٌ

وَكَذا الأَجسامُ جِسم عَمَّنا

ما أَرى نَفسي إِلّا أَنتُم

وَاِعتِقادي أَنَّكُم أَنتُم أَنا

فَمَتى ما كانَ خَيراً فَلَنا

وَمَتى كانَ شَرّاً فَبِنا

فَاِرحَموني تَرحموا أَنفسَكُم

وَاِعلَموا أَنَّكُم في إِثرِنا

مَن رآني فَليقوّ نَفسهُ

إِنَّما الدُنيا عَلى قرن الفَنا

وَعَلَيكُم مِن كَلامي جملةٌ

فَسلامُ اللَهِ مَدحٌ وَثَنا

وهكذا، يتجلّى لنا صوت السُّهرَورْدي الشاعر الذي لا يقل إشراقًا عن حضوره كفيلسوف؛ إذ يتشابك في قصائده الرمز بالوضوح، والجمال بالحكمة، ليخلق عالماً لغويًا تتوهج فيه المعاني كما تتوهج الأنوار في فلسفته. إن شعره، بما يحمله من إشارات صوفية وتأملات فلسفية، لا ينفصل عن مشروعه المعرفي، بل يكمّله ويعمّقه، ولعلّ هذا ما يجعل من السهروردي شاعرًا فريدًا تتجلى في قصائده بصيرة العارف، وتتنفس عبرها روحه المتطلعة إلى عالمٍ أرقى وأغنى، حيث تتعانق الكلمة والمعنى في وحدةٍ لا تنفصم.


(١) من كتاب نزهة الأرواح، الشَّهرَزُوري: ص٢٣٥

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.