اللوحة: الفنان البولندي ألكسندر جيريمسكي
عبد الحميد بسيوني

ما إن وضعت قدمي في أول الطريق الموصل إلى قريتي بعد غيبه طويلة، أحسست برغبتي الشديدة في رؤية الخالة “جوهرة” يا ترى هل مازالت في مكانها أمام دار عم “محمود النجار” تحت التوتة الضخمة التي تظلل الدار أمام القهوة الوحيدة بالقرية، وهي تفرش فرشتها وبضاعتها من الكرملة والعسلية التي تبيعها للأطفال بوجهها الصبوح وضحكتها الفاتنة التي أعشقها؟ أجلس أمامها وهي فرحة بي ومرحبة، تعطيني حبة الكرملة وترفض ان تأخذ ثمنها فأقول لها: احكي لي يا خالة، تبدأ في الحكي عن كل شخص في بلدنا أرغب في معرفة أصله وفصله، كانت تفتح كتاب تاريخ البلد منذ نشأتها حتي ذلك الوقت، وأنا ألتهم الحكايا، وتتجسد الشخصيات أمامي بينما الرجال الجالسين علي القهوة يضربون قطع الطاولة في عنف ويرمقوننا بين الحين والآخر، بعضهم يلعب الدومينو في صمت، والبعض الآخر يشد أنفاس الجوزة بكركرة عالية واستمتاع، مثلما أنا مستمتع بحكايات الخالة.
ها أنذا أمام المقهى، لقد تغيرت كثيرا، تم سفلتة الأرضية وتزينت الحيطان بسيراميك ملون، وعلى اليمين تغيرت التوتة أيضا، اصفر ورقها وقلت أغصانها، وثمة كوخ صغير قد نبت عند جزعها الضخم. بحثت بعيني عن الخالة جوهرة فوجدتها مكومة داخل الكوخ مثل جثة، نظرت إلي وجلست مقرفصة ولم تعد هي الخالة جوهرة التي أعرفها! ماذا فعلوا بها أثناء غيابي؟ بضاعتها البائسة مكومة الي جانبها، وعيناها مطفأتان، وجسدها ضئيل، فتذكرت العمدة وشيخ الغفر، لابد أنهما قد سلباها تماما بغلظتهما وفجورهما، فتيقنت بأنهما مازالا كما هما قبل رحيلي.
عندما اقتربت منها تأملتني ثم همست: انت جيت يا حبيبي؟!
كدت أحتضنها وأنا أهمس: نعم.. انت عرفتيني؟ وجهها صار مثل حبة بطاطس ذابلة تحت الطرحة السوداء التي تلف رأسها بها، قبل أن أقول لها احكي يا خالة، كانت قد اقتربت مني وفي صوت بالكاد أسمعه: إنت عرفت عملوا في ايه ولاد الكلب؟ كان صوتها قد تحول إلى أنين فسألتها: مين دول؟ قالت بصوت مرتجف: العمدة وشيخ الغفر وكلابه.. قاللي إن حضرة العمدة يستحي من الجلوس بالقهوة مع العامة وعايز ياخد دارك علشان يشرب فيها وهيشوفلك حتة تانية.. بدأت الدموع تسيل من عينيها وثمة لحظات صمت تحط فوق المكان.
كنت أعرف أن دارها تقع على أطراف القرية تكاد تكون معزولة في الغيطان، فخمنت بأن العمدة الفاجر أراد دارها كي يمارس فيها فجوره هو وعصابته بعيدا عن أعين الناس وليس لشرب الجوزة فإنه يستطيع شربها في سرايته، وفيما كنت أتذكر أفعالهم العاهرة واستبدادهم وانفصالهم عن أهل القرية وناسها، أكملت الخالة جوهرة بصوت كالفحيح: لما قاللي كده صرخت في وجهه أنا مش هسيب داري، روح قول كده لسيدك، إلا أنه في الصباح هجم شيخ الغفر وغفراؤه علي دار جوهرة وأشبعوها ضربا وحملوها ثم ألقوها أمام القهوة، وتحت التوتة حيث بضاعتها الفقيرة. لمحها الحاج محمود النجار فبني لها هذا الكهف كي تسكنه وتبيع به.
مثل شمعة قاربت علي الانتهاء علا صوتها قليلا: عايزة منك حاجه قلت: حاجة إيه أنا تحت أمرك.. عايزه اروح اشوف داري.. وحشتني اوي.
بصعوبة بالغة اخترقنا حواري القرية حتى وصلنا إلى أطرافها كنت أسير ساهما في صمت وهي متعلقة بي وأخمن بأنها قد بدأت تراجع فيلم حياتها السابقة.. في هذه الدار تزوجت، حنت إلي حيواناتها الأليفة التي تربيها في حوش الدار، جثة زوجها الذي استشهد بالحرب، أشياءها الحميمة التي تخبئها في شقوق الجدران، مواعينها التي تغسلها يوميا بالترعة بنت النيل، فرنها الذي تنام فوقه في ليالي الشتاء بعد الخبيز، التوتة التي تربيها أمام الدار، التراب الذي يغمرها عند التنظيف، ورائحة الجدران والهواء حين يتسرب من النافذة الصغيرة يخترق رئتيها ويسري في دمها، صوت الضفادع وصراصير الليل التي تنام وسط ضجيجها مثل موسيقي.
وصلنا أمام الدار، تأملتها وهي متسمرة أمام الباب لا تنطق، يبدو أن الفيلم قد انتهى، وهي كذلك، ركعت في صمت كأنها تصلي صلاتها الأخيرة ثم تمددت وشحب لونها وانقطع تنفسها فأقعيت إلى جانبها وأخذت أهذي وأنا أناشدها: إحكي يا خالة.. لكنها كانت صامتة لم تنطق، فقط كانت تطبق علي حفنة تراب في يدها التي لم أتمكن من فتحها أبدا.. أبدا.
عبد الحميد البسيوني كاتب مصري حاصل على بكالوريوس تجارة، رئيس القطاع الإداري بأحدى شركات هيئة قناة السويس حتى عام 2007. صدر له «أصوات في الليل» مجموعه قصصية 1979- «اخطاء صغيرة» مجموعه قصصية 1995- «عدة أسباب للقسوة» مجموعه قصصية 1997 – «ان تكون في نجريللي» رواية 2017.