إياس.. الصبي الذي ابتلع صمته

إياس.. الصبي الذي ابتلع صمته

هيفاء نورالدين

اللوحة: الفنان الإيطالي أميديو موديجلياني

اسمي إياس. اسمي غريب مثل كل شيء في حياتي، كأنني لم أولد لأكون هنا، بل في مكان آخر لم أصل إليه قط.

كنت في السابعة حين أدركت أن البيت ليس بيتًا، بل سجناً بجدران رقيقة. أبي كان يجلس في الزاوية، صامتًا حين يكون هادئًا، عاصفًا حين يثور. يده كانت أثقل من أي كلام، وأمي… أمي لم تكن تعرف من الأمومة سوى الصراخ وتوبيخ القدر الذي أنجبني إليها.

في المدرسة، كان الجحيم يتكرر. الثياب الممزقة، الحذاء المتهالك، والوجه الذي صار هدفًا للسخرية. كانوا يسمونني “المسخ”. أتذكر ذات يوم حين جرّني أحد الأولاد من سترتي المهترئة ودفعني إلى الوحل، ثم صرخ في وجهي: “أنت لست مثلنا! أنت قبيح!”. يومها، ضحك الآخرون، وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل، لكن دموعي لم تكن مسموعة في عاصفة الضحكات.

وفي مساء شتوي، حين عدت بعلامة سيئة، ضربتني أمي حتى ارتطم وجهي بحافة الطاولة. ترك ذلك أثرًا غائرًا على خدي. حين نظرتُ في المرآة، شعرت أن أحدهم خطّ على وجهي تاريخًا لا يُمحى. لم أعد أرى إياس الذي كان يحلم بأن يصير مثل الآخرين. بقي صبي بوجه مشوه وقلب يئنّ.

كبرتُ، لكن طفولتي بقيت عالقة في جسدي. لم أعد أركض مثل الأولاد. قلبي صار يخونني. الأطباء تحدثوا عن “خلل في الصمام”، كلمات بدت كحكم بالسجن المؤبد في جسدي. في الأيام الطويلة، كنت أستلقي في الظلام، أسمع شجار أبي وأمي، وأشعر أن البيت كله يتنفس كراهية.

عندما بلغت الثالثة عشرة، هربت أول مرة. خرجت تحت المطر، مشيت لساعات بلا وجهة. توقفت أمام فرن في آخر الحي. جلست هناك، أستنشق رائحة الخبز الساخن، وأتخيل أن شخصًا ما سيخرج ليعطيني رغيفًا طريًا ويقول لي: “عدت إلى البيت يا بني”. لكن لم يخرج أحد. وعدت أنا إلى بيتي، جائعًا، مبللًا، أكثر بردًا من الخارج.

في الخامسة عشرة، كانت وجوه زملائي تكبر وتصبح أكثر قسوة. قال لي أحدهم يومًا: “أنت لن تعيش طويلًا، قلبك المريض سيتوقف قريبًا، وهذا أفضل لك”. لم أجد ردًا. فقط ابتلعت الصمت كما أبلع الدواء المرّ.

ومع مرور الوقت، صار الصمت ديني الوحيد. لم أعد أجادل أحدًا. لم أعد أطلب شيئًا. حتى الألم صار عاديًا، كما يعتاد المرء على البرد في بيت بلا تدفئة.

اليوم، عمري سبعة عشر عامًا. لم يعد أبي يضربني، لكن ليس لأنه أحبني، بل لأنه توقف عن ملاحظتي. صرت ظلًا يمر في البيت دون أن يراه أحد. الندبة في وجهي كبرت معي، وصار قلبي أثقل. في الليل، أكتب في دفتري:

“لو كان للحب طعم، لكان رغيف خبز دافئ، لا بقايا باردة يرمونها لي كأنني متسول في بيتي.”

وفي داخلي، أعرف أنني إن بقيت هنا، فلن يبقى مني شيء سوى ندبة تمشي على قدمين.


هيفاء علي نور الدين كاتبة وباحثة ليبية.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.