الحوار البناء

الحوار البناء

اللوحة: الفنان الأميركي جان باسكيات 

لا أؤمن بمصطلحات أو جمل مثل «الحوار البناء والهدام» و«النقد البناء والهدام»، أراها طرحت بغرض تبرير فشل الحوار أو رفض النقد، فالحوار هو الحوار والنقد هو النقد وفقط، وكلاهما لا يواجه إلا بنظيره، فالحوار والنقد يواجه كلاهما بما يقابلهما من الحوار والنقد.

الحوار لا يدور فقط بغرض الوصول إلى برهان عقلي أو منطقي، هناك وظائف أخرى للحوار، وأقوى مثال على ذلك الحوار الذي يدور بين المريض والطبيب النفسي، حوار للتفتيش عن ما وراء الألم والتنفيس عما يتجمع في الداخل من كلمات وعقد وصور تنغص على الإنسان في أعماقه.

ماكينة الإنسان الروحية تدور من وراء الوعي بأفكار وتصورات لا تتوقف، ولهذا كان الحوار وسيلة هامة لإخراجهما للنور والهواء، كثيرا ما تصبح الأفكار والتصورات مثل تجمعات الغازات الفاسدة داخل الأمعاء، أو كالدم الفاسد الذي لا بد من أن يغادر الجسد، وهذا يعني أن كثيرا من الأفكار والتصورات لا تحتاج أدوات المنطق وإنما التنفيس والتعبير باللسان، وإن لم يحدث هذا سوف تتجمع داخل سراديب النفس وتؤذيه.

لهذا ينصح العلماء بأن يحاور الأب أولاده بلا نهاية، حوار وفقط، لا ضرب ولا قهر ولا ذم أو توبيخ، حوار بلا أسلحة معنوية، حوار بأدوات السلم والأمان، وبمجرد دوران هذا النشاط يكون الشفاء والتغيير اللذان يحصلان نتيجة للتغيير البطيء والخفي الذي يحدث أثناء الحوار وبمرور الأيام.

كثيرا ما يتكوم بين شخصين جبال من الظنون والمشاعر دون أن يتصارحا، ويبيت كل منهما نية سيئة للآخر، ولا سبيل لتوقف هذه المشاعر عن النمو سوى الحوار والمصارحة، وسوف يفاجأ الاثنان أنهما أقاما بناءً من المشاعر والظنون الباطلة دون أساس، والسر وراء ذلك عدم الحوار، يجب أن لا يخرج الحوار ولكن وراءه فم مبتسم وعين صادقة ونفس متسامحة، كل هذا ينطق أثناء الحوار فينجح ويذوب الجليد بين المتحاورين.

في مقدمة كتاب «كابوس مكيف الهواء»، بعد أن أدرك الكاتب الأمريكي «هنري ميلر»، أنَّ صوته الداعي للسلام ضعيف، بينما صوت الشعارات الحماسية التي سبقت الحرب العالمية الثانية يملأ الدنيا صخبا، قال: «لكي يعرف الإنسان السلام يجب أن يجرب الصراع، وعليه أن يمر بالمرحلة البطولية قبل أن يتمكن من التصرف كحكيم، يجب أن يصبح ضحية انفعالاته قبل أن يتمكن من التعالي عليها».

 في هذه المقدمة تقرير لواقع متكرر، أنَّ الإنسان يستطيع أن يوفر على نفسه الصراع والدماء والمشاعر السيئة والسنوات الضائعة، لو لجأ للحوار، ولكنه دائما لا يخضع للحوار والعقل إلا بعد أن يندم ويدفع أثمانا فادحة، لا يمكن تعويضها. 

من يدرس التاريخ يدرك أنَّ ضحايا الخلاف بين الكاثوليك والبروتستانت عشرات الملايين من البشر، حتى كاد الإنسان الأوربي أن ينقرض، فهناك شعوب فقدت ثلثي السكان وأخرى فقدت نصف السكان، وفي النهاية توصلوا إلى أن الحوار هو الحل، فتحاوروا متأخرا وتوصلوا لأدوات ووسائل ينتشر بها التسامح والمواطنة. وينطبق نفس الأمر على الخلاف بين السنة والشيعة، وبين مختلف الفرق والمذاهب في الأرض، غاص الجميع عبر التاريخ وحتى اليوم، في بحور من الدماء قبل أن يذعنوا للجلوس على المائدة للحوار. 

الشركات الصناعية الكبرى لا تتوقف عن عملية التحسين، فهناك دائما مطاردة للجودة، وبهذه الطريقة تطورت المخترعات من الصورة الأولى الساذجة إلى ما هي عليه اليوم وما ستكون عليه غدا، ولو توقفت شركة عن هذه العملية لسبقتها الشركات الأخرى، وبالبحث البسيط في جوجل نستطيع رؤية السيارة «كمثال» في أول اختراعها ثم ما خضعت له من سلسلة التطورات والتحسينات حتى وصلت للسيارة التي نركبها اليوم. 

الإنسان هو الأولى بالاهتمام في هذه الدنيا، فهو بناء الله، وهو خليفته في الأرض، وقد كان في بداية حياته على الأرض يبتدع تحسينات تفرضها ضروريات الوجود، ولكن حين تمكن الإنسان من بناء البيت وتدبير الآلات التي تحفظ حياته، أصبح التطور في حياته بطيئا جدا، ولو كان التحسين يلقى نفس الأهمية التي تنالها المخترعات والآلات لكان إنسان اليوم أسعد

لا توجد وسيلة للتحسين أفضل من الحوار البناء، باستعراض الواقع ونقده ثم الخروج بما يقلل من العيوب ويزيد في المميزات، ولكن ما يعرقل ويفسد ويمنع الحوار هو ما وراء النفوس التي تتحاور، فالانحياز والمصلحة والمشاعر السيئة تفسد كل حوار وتطرد أي منطق، وهذا هو سر ما فينا من شقاق وتخلف

من القصص الطريفة والمفيدة التي قرأتها: «قام أحد الأدباء الظرفاء الأوربيون بنشر نقد لأحد اللوردات من ذوي النفوذ، فما كان من اللورد إلا أن ذهب إليه غاضبا. قال اللورد: «لقد أهنتني ولا بد من مبارزتك، فأختر السلاح». قال الأديب بهدوء: «لا بأس، أبارزك بنفس السلاح الذي تظن أنني اهنتك به، الكلمة» ابتسم اللورد لهذه الإجابة وتم الصلح. 

النقد يقابله نقد، الكلمة تقابلها كلمة، لكن الكلمة التي تقابلها مسدس، لا تسمى حوارا بل قهرا وجهلا وتخلفا ويخسر الجميع. هذا هو الإنسان الذي يستسهل الدماء ويستثقل الحوار، بالحوار تسع الدنيا الناس ويسعد الجميع، ولم يعد عندنا اليوم رفاهية تجنب الحوار، فقد بلغت المجتمعات الرشد ولا سبيل سوى أن يتحاوروا.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.