جولييت المصري
اللوحة: الفنان النمساوي المستشرق لودفيغ دويتش
ضجت قاعة الزفاف بالبهجة وتعالت الأصوات المرحة مع عزف الموسيقا، بينما كانت الأضواء الخافتة تضفي سحراً خاصاً على المكان. بين الحشود المتأنقة، جلس فارس يتبادل الأحاديث والضحكات مع رفاقه الذين شاركوه نفس الطاولة المستديرة، لكن فجأة، توقفت أنفاسه، وفغر فاه، لقد لمح وجها مألوفا، وجها لم يره منذ ما يقارب الأربعين عاما. إنه الأستاذ يوسف، معلمه في المرحلة الابتدائية.
ارتجف قلبه، وتنازعته المشاعر، مزيج من اللهفة والشوق والاحترام غمر كيانه، توقف متأهبا، ثم شق طريقه بصعوبة بين الأجساد التي تملأ القاعة، كل خطوة كانت تقربه من ذكرى قديمة، من لغزٍ لم يُحل. وصل إلى معلمه، وابتسامة خجولة، ممزوجة ببعض الخزي ارتسمت على شفتيه، ثم بادره متلعثما: هل تتذكرني يا أستاذي؟ سأل بصوت خافت أقرب للهمس.
نظر إليه الأستاذ يوسف، وعلامات الدهشة على وجهه، ثم أجاب بصوت هادئ: عذرا يا بني، العتب على العمر وقصر البصر، من أنت؟
دهش فارس، كيف لا يتذكره؟ ووجد السؤال يخرج من فمه دون تفكير: كيف لا تتذكرني يا أستاذي؟ ألا تتذكر التلميذ اللص؟ أنا ذلك التلميذ الذي سرق ساعة زميله في الصف، وأنقذته أنت! وبدأ فارس يتحدث، والذكريات تتدفق كشلال جارف: كنت تدرسنا بالصف الخامس، وذات يوم زين لي شيطاني سرقة ساعة زميلي، فقد كان يتباهى بها بيننا، وحقا كانت جميلة، ولما اكتشف صاحب الساعة ضياعها أخذ يبكي بحرقة، ويبحث عنها في كل مكان مثل المجنون دون جدوى، وبالطبع لا يجرؤ على اتهام أحدنا، فطلبت منا أن نقف جميعا ليتم تفتيشنا.
تنهد فارس عندما تذكر تلك اللحظة وكأنها حدثت بالأمس. ضربات قلبه المتسارعة، التعرق البارد الذي غطى جبينه، اليقين بأن أمره سينفضح. ثم تابع: أيقنت حينها أن أمري سينفضح أمام التلاميذ والمعلمين، وسأبقى موضع سخرية، وستتحطم ثقتي بنفسي إلى الأبد، كان الخوف يلتف حولي كالأفعى، يخنقني ببطء.. أمرتنا أن نقف صفا، وأن نواجه الحائط، وأيدينا للأعلى، وأن نغمض أعيننا تماما؛ فخيم الصمت المطبق على الصف، لا يقطعه سوى صوت خطواتك وأنت تتنقل بيننا، وأخذت تفتش جيوبنا، وعندما جاء دوري في التفتيش، اكتشفتَ الساعة في جيبي، فسحبتها بهدوء، وواصلت التفتيش إلى أن فتشت آخر طالب.
شعرت وقتها بالرعب وتوقعت الفضيحة والتوبيخ، ونظرات الازدراء من زملائي، والعقاب الشديد، وربما الرفد من المدرسة.
لكنك بعد أن انتهيت، طلبت منا الرجوع إلى مقاعدنا، وكنت مرتعبا أنتظر أن تفضحني أمام الجميع. جلست على مقعدي أتوقع أسوأ السيناريوهات، وأكاد أجزم أن الصف كله يسمع دقات قلبي المرتجف.
وإذا بك تظهر الساعة، وتعطيها لصاحبها، ولم تذكر اسم التلميذ الذي أخرجتها من جيبه! كانت هذه اللحظة هي الصدمة الحقيقية بالنسبة لي.
ثم ألقيت علينا درسا عن السرقة وحرمتها، وكيف أنها تعد من أسوأ السلوكيات التي تضر المجتمع، وبينت لنا فضل الأمانة والصدق واكتساب الثقة. استمعت لكل كلمة، وشعرت بالخجل والندم ينهشان قلبي.
مرت سنوات الدراسة الابتدائية، ولم تحدثني أبدا عن الأمر أو تعاتبني، ولم تحدث أحدًا عني وعن سرقتي، هذه المعاملة اللطيفة، هذا الستر على فعلتي، كان لهما تأثير عميق في نفسي، ولذلك يا معلمي، زاد حبي واحترامي وتقديري لك، وقررت منذ ذلك الحين ألا أسرق أي شيء مهما كان صغيرا، لقد كانت تلك اللحظة نقطة تحول في حياتي، نقطة بداية لطريق جديد مليء بالصدق والأمانة، والجد والاجتهاد والاعتماد على النفس.. ثم نظر فارس إلى معلمه، وعيناه تفيضان بعبرات الامتنان وقال: كيف إذن لا تذكرني يا أستاذي وأنا تلميذك المذنب، وقصتي لا يمكن أن تنساها أو تنساني؟
ابتسم الأستاذ يوسف ابتسامة دافئة، وربت على ظهر تلميذه قائلا: بالطبع أتذكر تلك الواقعة يا بني، صحيح أنني تعمدت وقتها أن أفتشكم وأنتم تغمضون أعينكم كي لا ينفضح أمر السارق أمام زملائه، لكن ما لا تعلمه يا بني هو أنني فتشتكم وأنا مغمض العينين أيضا ليكتمل الستر على من أخذ الساعة، ولا تترك فعلته في قلبي شيء ضده.