الفتح

الفتح

اللوحة: الفنان السوري عصام الشاطر

في سنوات الشباب الأولى، كنت أقرأ في كتب السلوك والترقّي الإيماني، وكانت كتب الغزالي وابن القيم مصدرًا لإحساسي بنشوة كبيرة، بسبب ما كان يتسلل إلى قلبي من معانٍ إيمانية.

أذكر أنني كنت دائمًا أدعو قائلًا: «اللهم افتح لي، وافتح عليّ». وأكثرتُ من الإلحاح في الدعاء، المصحوب بصلوات وصيام وتفكّر ومحاولة استدعاء الخشوع، ومع ذلك طال الوقت ولم أشعر بهذا الفتح.

ظل شعوري بوجود حاجز وانغلاق ملازمًا لي ومثيرًا للإحباط، حتى قرأتُ هذه القصة لرابعة العدوية: «كان أحد رجال الوعظ يكثر من وعظ الناس قائلًا: (افعلوا كذا، وقولوا كذا، واجتنبوا كذا، وسوف يُفتح لكم)، ويتخلل وعظه دائمًا جملة: (وسوف يُفتح لكم).

فقالت له: “لقد أكثرتَ وأخطأتَ بجعلك الفتح في زمن المستقبل، لأنك ترى الباب مغلقًا، وكذلك يراه من تخاطبه، والباب لم يُغلق أبدًا، ولكنكم المنغلقون والمعرضون عنه”»

أدهشني هذا المعنى الحكيم، المؤمن، والعارف، معنى أن نتمنى أن تُفتح الأبواب التي نتوهّم انغلاقها، بينما هي مفتوحة على مصراعيها.

هناك غشاوة تمنع الرؤية، وهذه الغشاوة هي نتاج ضعف إيماننا، وثمار عبادتنا الجاهلة والقليلة، فالجهل لذيذ، والعمى مريح.

***

الشعور بالله لا يحتاج إلى تكلّف، لأنه شعور بالواقع. من يشتاق إلى شخص، يحاول تخيّله في غيبته، لكن الشعور بالله ليس تقريبًا لبعيد، ولا تجسيدًا لوهم، بل شعور بالواقع المحيط المفروض، لأن الألوهية لا تفارق العبد لحظة، فالغفلة عنها غفلة عن الحق. والأعمى يعجز عن رؤية الأشياء، ولكنها موجودة، وذُهول الناس عن الله تعالى هو إغماض أعينهم بإرادتهم، وليس عَمى، وهم مسئولون عن هذا الذهول.

***

ما الذي جعل رابعة العدوية تعرف ما خفي عن كثير من الناس؟ الإجابة: التجربة المخلصة، والإصرار على الوصول والقرب؛ فالعلم لا يعطيك بعضه، إلا أن تعطيه كلك، وكذلك الحب، والوصال، والعرفان، وأشواق الروح.

قال حكيم: «المثقف الواعي يرى الآخرين مزوّدين بأجنحة وقدرات خارقة، بينما يرى فقراء الوعي أنفسهم مقيّدين، مسَلسلين، مقهورين، معدومي الحيلة، وضحايا».

الذي يمتلك علمًا ووعيًا، يرى الأجنحة والأبواب المفتوحة. والذي لا يمتلك علمًا ووعيًا، يرى قيودًا وسدودًا، وضعفًا ويأسًا.

***

الآية الكريمة: ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22] فـ “كشفنا عنك غطاءك” وليس “الغطاء”، وكأن عين الوعي في الإنسان تحت غطاء، وكان عليه في حياته أن يحاول رفعه – ولو جزئيًا – ليرى بعض الأشياء، ولكن بالوفاة، تخرج النفس، ومعها يُرفع الغطاء كاملًا، فيرى الإنسان الحقائق كاملة.

وبقدر وعي الإنسان، وإيمانه، وعلمه، يرتفع الغطاء، ليفسح المجال للإبصار. ولكل منا تجارب بشأن هذا الوعي والإبصار المتأخر.

عندما نرجع بالذاكرة إلى الوراء، نتذكر ما صدر عنّا من قرارات وخيارات خاطئة، نُميّز خطأها بوضوح، وندرك القرارات الصحيحة التي كان ينبغي أن نختارها.

وبالمثل، أحداثٌ تفاعلنا معها، ولو عاد بنا الزمان، لكان تفاعلنا وردّ فعلنا مختلفًا وصحيحًا، وأيضًا، أفكارٌ ناقصة أو ضالة اعتنقناها، واليوم نراها بحقيقتها، ونتبنّى أفكارًا أخرى صحيحة.

وبهذا، فالقرارات، والأحداث، والأفكار، لم تكن مغلقة، ولكن العقول هي التي كانت مغلقة، وانفتحت بمرور الأيام.

ولو حاول الإنسان النظر بحكمة، وعلم، ووعي، للأحداث في وقتها، وبذل الجهد فيها، لكان الفتح مبكرًا.

فالأبواب مفتوحة، والغطاء ملازم للإنسان، وعليه بذل الجهد والوعي لرفعه.

***

الصورة التي توضح هذا الغطاء ما نعرفه من تعلّق المراهق بفتاة صارخة الجمال؛ فهو لا يرى سوى جمالها، ولا يلتفت إلى أيّ عيب يصدر عنها، ودائمًا ما يبرّر هذه العيوب، لأنه يرى بعين العاشق، وعين العشق تُغلق بقية العيون الأخرى، (وعين الرضا عن كل عيب كليلة وعين غير الرضا تبدي المساويا).

والجميع من حوله يحاول نصحه، ويُوضح له ما يرونه ويعرفونه من سوء خُلُقها وطباعها، لكنه لا يستمع، ولا يقبل كشف غطائه. وتمرّ الأيام، ويحترق بنارها، ويرتفع الغطاء بعد فوات الأوان، وهو نادم وخاسر.

في هذا المشهد، كان الناس من حوله يرون ما لا يراه المراهق العاشق، ووراء هذا العمى غلبةُ هوًى، وخيالٌ ضال، وتعامٍ عن عيوب صارخة. وهذا حال أغلب الناس مع خياراتهم في الحياة؛ غطاء الهوى، والتحيّز، والمشاعر السيئة، والمخاوف الضالة، يُغطي وعيهم، فيختارون ثم يندمون.

باب الصواب مفتوح أمام أعينهم، لكنهم وضعوا عليه بأنفسهم أستارًا، فرأوه مغلقًا. هذا بالضبط حال من يُطارد المال، والجاه، والسلطة، وبقية الشهوات المادية والمعنوية؛ لا يرى سواها، فيتبعها كما يتبع الفراش ضوء النيران، ثم يحترق فيها.

وكل هذه الفِخاخ وقع فيها أغلب الناس، وفي نهاية المغامرة يخرجون بمشاعر الندم، وحصيلة من الحكمة المتأخرة التي رُفعت أستارها عنهم رغماً عنهم، بعد فوات الأوان.

فالإنسان لا يضلّ ولا يشقى بسبب عمًى خارجي، بل يُغلق عين بصيرته بنفسه، ثم يضلّ ويشقى.

***

هناك مثل عامي يقول: “كنت فين يا – لا – لما قلت نعم؟” وهي جملة ندم بعد فوات الأوان، على قرار قديم بالموافقة، في حين كان الصواب في الرفض.

في هذه اللحظة التي ندم عليها، كان الغطاء الذي قاده للقبول ربما عبارة عن “مخاوف، مشاعر، أطماع، حسابات، معلومات” خاطئة، وكان لا بد من التفتيش فيها، وكشف زيفها وصوابها، حتى يرى الباب مفتوحًا، ومكتوبًا عليه: “لا توافق”.

***

يدخل آلاف الطلاب الجامعة، ويبدأ أغلبهم بحماس البدايات. تمر السنون، ولا يبرز في الدفعة سوى عشرات من الطلاب الممتازين. فما الفرق بين آلاف الطلبة وهؤلاء الممتازين غير رؤيتهم الدائمة لباب العلم المفتوح؟ ومن هؤلاء العشرات الممتازين قد يخرج عالم واحد عظيم في تخصصه، يعلو نجمه في المجتمع، ويكون فخرًا وهداية في مجاله.

هل يمكن الحكم على هؤلاء الممتازين بأنهم محظوظون؟ وهل ينطبق نفس الحكم على من تفوّق عليهم جميعًا، فهو أيضًا أكثرهم حظًا؟

الأبواب كانت مفتوحة أمام آلاف وعشرات الآلاف، وربما ملايين الطلاب، ولكن كلما أبعد الطالب عينه عن الهدف وتلهّى وانشغل بأبواب أخرى، كلما أحس بضيق الباب الأول وانغلاقه وعتامته. ومع استمرار اللهو، تنسدل أستار متتالية عليه فتحجبه تمامًا. وفي المقابل، نرى هؤلاء الممتازين لم يبعدوا أعينهم عن الباب أغلب وقتهم، والممتاز الأكبر كان أكثر منهم إصرارًا.

***

ولو نظرنا إلى كل ما ملأ قلوبنا يأسًا، ثم أعدنا النظر فيه بعلم، ووعي، وإيمان؛ لوجدنا الأبواب كلها كانت مفتوحة على مصراعيها: أبواب: الإيمان، الكفر، العلم، الجهل، الحرية، الكرامة، الذل، العدل، الإنجاز، الغنى، الفقر. الأبواب مفتوحة، ولكن العيون مغلقة، والأفهام موصدة، والنفوس مظلمة.

من أراد تغيير الواقع: فالباب مفتوح. من أراد نشر الإيمان: فالباب مفتوح. من أراد تحقيق السلم المجتمعي: فالباب مفتوح. من أراد مقاومة الفساد: فالباب مفتوح. من أراد الإصلاح: فالباب مفتوح. وكما يقول المثل: “فتح عينك تأكل ملبن.”

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.