اللوحة: الفنان التركي عثمان حمدي بك
شيكدار محمد كبريا
يجب أن تكون لدينا فكرة واضحة عن طبيعة الفلسفة الحديثة وخصائصها لفهم الفكر الفلسفي ما بعد الحداثي المناسب لعصر ما بعد الحداثة. كما أن أوجه التشابه والاختلاف بين الفلسفة الحديثة والقديمة والوسطى مهمة في هذا الجانب.
لقد كانت الفلسفة القديمة أو اليونانية في الأصل جمالية. وكانت الحقيقة والرفاهية والجمال أهداف هذه الفلسفة، التي اعتُبر العالم فيها عملاً فنياً. وكان التأمل أكثر تأثيراً في الفلسفة القديمة من التحليل. ففي التأمل، يُكتشف العالم أو يُدرك ككل منظم. وتُستكشف طبيعة الشيء من خلال شكله. ومع ذلك، كانت فلسفة البعض، مثل ديمقريطس، استثناءً من النوع الجمالي. فرغم قدمها من حيث الزمن، إلا أنها كانت قريبة من الحداثة من حيث العقلية والموقف.
بالمقارنة مع الفلسفة التأملية القديمة، تتميز الفلسفة الحديثة بالبساطة والتحليل الدقيق. ورغم أنها ليست مُرضية جماليًا كالفلسفة القديمة، إلا أن الحقيقة المجردة هي هدف هذه الفلسفة وشغلها الشاغل.
في هذه الفلسفة يستحيل إرضاء الشعور والذوق في آنٍ واحد. أما في الفلسفة الحديثة، فتُهمل الروح حتى لا تربط بين العالم والطبيعة والقيم الإنسانية. في هذه الفلسفة، ليس العالم كلًا حيًا، بل آلة. إنه ليس عملًا فنيًا، بل آلة آلية؛ لا يمكن فهمه إلا بالتحليل لا بالتأمل. لا غاية لهذا العالم، بل السببية الآلية هي السائدة في كل مكان.
في الفلسفة الحديثة، يستحيل إرضاء الشعور والذوق في آن واحد. وفيها يتم إهمال الروح حتى لا تربط بين طبيعة العالم والقيم الإنسانية. فالعالم هنا ليس كلًا حيًا، بل آلة. ليس عملًا فنيًا، بل أداة آلية؛ لا يمكن فهمه بالتأمل بل بالتحليل. ولا غاية نهائية لهذا العالم، فقط السببية الآلية هب الموجودة في كل مكان.
من الواضح أن الحواس الدينية أكثر تأثيرًا في فلسفة العصور الوسطى من الجماليات القديمة. فالإيمان هنا هو المتحكم في المعرفة، وهو الذي يحدد نطاقها وغايتها. يتحول الفكر إلى عبادة. ومن الملاحظ أن محاولات فهم وتفسير طبيعة الأشياء تتم في ضوء الآخرة. تنشغل فلسفة العصور الوسطى بأمور ميتافيزيقية ومتعالية، مثل طبيعة الله وصفاته، وعدد الملائكة، وخلود الروح. هدف العلم هنا هو الدين. تكمن أهمية الإنسان كابن لله، ولذلك تكمن مهمته في بناء علاقة معه. الله هو الأساس، والعالم ثانوي. يُعتبر العالم هنا منزلًا في الطابق الأرضي، تسوده نعمة الله. ونتيجةً لذلك، تحولت الفلسفة الغربية في العصور الوسطى إلى تصوف شكلي عميق.
في تاريخ الفلسفة، يُعتبر العصر الوسيط عصرًا مظلمًا. ومع ذلك، بين العصر الذهبي القديم للفلسفة والعصر الحديث، وعندما كان تقدم نظرية المعرفة على وشك الركود، كان العرب، هم ممثلين العالم المتحضر آنذاك، وهم منارة المعرفة. ولذلك لا يمكن إنكار مساهمة العرب الحضارية في العصور الوسطى. ففي ذلك العصر المظلم، لعب المنطق والطب والفن والأدب العربي دورًا مؤثرًا في إخراج العالم الغربي من ظلمات الجهل.
قدّم العرب مساهمات تاريخية في الحفاظ على مجد الماضي وتقديمه للحاضر والمستقبل. لم يقتصر عملهم على جمع الفلسفة اليونانية والقديمة وحفظها، بل فسّروها وطوّروها أيضًا. لهذا السبب، لا مفر من أن يكون العصر الحديث مدينًا للعرب.
لفقد قُدِّمت أعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس وغيرهم من العلماء ذوي الشروح القيّمة إلى الناس المعاصرين لأول مرة من خلال العرب وباللغة العربية. واستمدت أوروبا الحديثة معرفتها في الرياضيات والطب والفلك والفيزياء وعلم النبات والكيمياء من العرب. ومن الجدير بالذكر أن ابن سينا كان موضع تقدير وإعجاب كعالم لا يُنازع في مجال الطب على مدى الخمسمائة عام التالية. ولم يكن الفكر العربي مجرد فكر تأملي.
ركز الفلاسفة المسلمون بشكل خاص على منهج الملاحظة والمنهج الاستقرائي، باعتبارهما طريقًا أكيدًا للمعرفة العلمية. ولم يكتفوا بإحياء التعاليم العلمية والميتافيزيقية القديمة، بل وضعوا أيضًا أسس الحضارة الحديثة. وفي مجال المعرفة، أعاد العرب إدخال نظام الشك. وقدّم ابن خلدون نظرية جديدة في التاريخ. وأكد ابن حزم على الحواس كمصدر وناقل للمعرفة. وتحدث ابن تيمية عن المنهج التصاعدي. وهكذا، في العصور الوسطى، أرسى المفكرون المسلمون أسس ممارسة نظرية المعرفة الحديثة من خلال لعبهم دور رواد مناهج الملاحظة والتجريبية. وكان الكندي (801-873)، والرازي (865-925)، والفارابي (870-950)، وابن سينا (980-1037)، وابن رشد (1126-1198) من أبرز فلاسفة المسلمين المؤثرين في العصور الوسطى. كما أدى شرح ابن رشد الأرسطي إلى مبادرة إعادة اكتشاف أرسطو في أوروبا عشية عصر النهضة.
ترجمة: حانة الشعراء
poetspub.com 