وجه آخر لهذا الظل

وجه آخر لهذا الظل

اللوحة: الفنان البلجيكي اميل كلوز

مهدي النفري

ليس كلُّ ما تراهُ بعينيك هو الحقيقةُ التي يُدركُها الجميعُ

اليومَ اكتشفتُ أنَّ النهرَ، الذي كان يومًا ما رمزًا للحياةِ المتدفقةِ لم يَعُدْ سوى بركةٍ يابسةٍ لا تحملُ إلا بقايا حيواناتٍ ميتةٍ أو أخرى تنتظرُ زوالَها بصمتٍ. كيف يمكنُ للماءِ الذي شقَّ الأرضَ وتغلغلَ في أوصالِ المدينةِ أن يتلاشى هكذا وكأنَّهُ لم يكنْ؟ ذلك النهرُ الذي تغنّى به الجميعُ كان سرابًا يتلاشى أمامي يصرخُ بغيابِهِ وكأنَّهُ وجعُ النسيانِ الذي يتسللُ إلى كلِّ أثرٍ أو ثوبُ عزاءٍ يكسو كأسًا لم يبقَ منهُ سوى العطشِ.

ما الذي يدفعُني إلى قولِ ذلكَ؟ هل هو خيبةُ أملٍ في الأشياءِ التي كنتُ أؤمنُ بثباتِها؟ أم أنَّهُ مجردُ انعكاسٍ لزمنٍ يُجرّدُنا من رموزِنا شيئًا فشيئًا؟ وأنا أشدُّ الرحالَ مجددًا نحوَ قصةٍ يكتبُها الآخرُ عني، حيثُ تتعددُ الحكاياتُ ويتكاثرُ الكتّابُ لكنَّ الحقيقةَ وحدها تبقى اللاعبَ الأبرزَ في لعبةِ الشطبِ والبقاءِ.

انظرْ

يمكنكَ أن تغرقَ في الحنينِ، أن تستعيدَ صرختكَ الأخيرةَ وأنتَ تلقي بجسدِكَ في ذلكَ النهرِ الغامضِ دونَ أن تقترفَ إثمَ الفناءِ. لكن هل الفناءُ حقًّا نهايةٌ؟ أم أنَّهُ امتدادٌ لحكايةٍ لم تُكتبْ بعدُ؟ الفناءُ ليس سوى أغنيةٍ قديمةٍ تترددُ حينَ يستبدلُ الظلامُ عتمتَهُ بليلٍ داكنِ اللونِ كأنَّها نبوءةٌ متكررةٌ تهمسُ بأنَّ كلَّ شيءٍ يمضي نحوَ التحوُّلِ.

أعودُ لأرسمَ وجهَ ذلكَ النهرِ وأرسمَ وجهي وأتركُ الألوانَ تنفردُ بالدمعِ، كأنَّها وحدها تدركُ أنَّ الزمنَ لا يبتلعُ الأشياءَ بل يعيدُ تشكيلَها في صورةٍ أخرى. وحينَ أفرغُ من الرسمِ لا أجدُ أمامي سوى مرآةٍ عاكسةٍ لصورةِ النهرِ، لكنَّها ليست كما كانتْ فقد تحولتْ إلى أثرٍ غامضٍ، خافتِ الحدودِ، مثلَ حلمٍ يتلاشى مع إشراقِ الصباحِ.

وأرددُ

كما قلتُ لروحي مرارًا وتكرارًا

ما يمكنكَ أن تراهُ ليس بالضرورةِ أن يراهُ الجميعُ

***

وكأنَّنا لم نكنْ سوى أثرٍ في ذاكرةٍ ترفضُ التذكرَ.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.