اللوحة: الفنان السوري حمود شنتوت
هاتفني صديق قديم، لا أعلم كيف وصل إلى رقمي وقال أنه برغب في لقائي، حين التقينا واسترجعنا ما كان بيننا من ودّ، أسرّ لي ببعض ما يضيق به صدره، راح يتلو تفصيلات كثيرة، ظللنا نتسامر لفترة حتى قطعنا جزءًا غير يسير من الليل. فلمّا تثاءب أدركتُ أن ذلك إعلان أنه أفرغ ما في جعبته، قد هدأ بعد قلق، عندها قمنا نلملم معًا أطراف عباءة الليل المهترئة، ثم غادرنا المكان كلّ إلى مأواه.
تقابلنا بعد ذلك كثيرًا.. غير أنني كل مرة أذكّره بضرورة حذف كل حديثنا من ذاكرته، أن يمسح أي أثر يدل على مرورنا من أماكن بعينها، أن يبدّل عطره المميز بآخر لا يعرفه الناس، ألفتُ نظره وأعرف ردّ فعله، إذ يهز رأسه كأنما يقول أعي هذا وأفعله..
في آخر لقاء بيننا وكان ذلك في العشر الأواخر من “مايو” الماضي، تكلم “محمد حمدي” عن قلب يخفق دون إذن مسبق، عن ضحكة على استحياء تسللت إليه من طاولة مجاورة.
أخبرني أيضًا عن همسات تمر جواره وتلقي السلام بجرأة. لمّا فرغ من حديثه قرأت عليه المحاذير المعتادة والمخاطر، ربّت على كتفه ونبّهت بنبرة شديدة الحزم على ضرورة العمل بموجب التعليمات، حفاظًا على سلامته، غير أنه ضحك وقال: تصر أن تعاملني كأم لطفلها، لا تخش عليّ..
ثم غاب، قد علمت أن ثمة عركة كبيرة نشبت بين عطره المميز، بين بعض تفصيلات لم يعرها اهتمامًا كافيًا، فاشتعل الموقف ثم امتد الحريق حتى أتى عليه.
علامة استفهام
لم أمانع أن تعترض هذه المرأة طريقي، كما لم أجفل حين لوّحتْ في وجهي، كأنما تخبرني أن لديها ما تقوله. تركتها تقترب، قالت:
– سألتك بالأمس ولم تُجب!
قلت: لا أتذكر… ما سؤالكِ؟
قالت بدهشة: نسيت؟
أجبتها: كثيرًا ما أفعل، إذ لم يعد لي صاحبٌ سواه.
قالت: من؟
قلت: النسيان.
سألتْ والغضب يملأ وجهها: هل نسيتني؟
قلت معتذرًا: الأمر يخرج عن يدي، أسألكِ الدعاء لي.
رفعت يديها للسماء:
تمتمتْ.
غمغمتْ.
ثم مسحت وجهها بكفّيها، ومضت من أمامي.
كنتُ أتبعها بعيني وأسأل نفسي بعجب: من هذه المرأة؟ لا أعرفها يقينًا فقط أدري أنها “؟”
وكذلك أدرك أن حنينًا غامضًا يشدني إليها!
