«تيمة السخرية والأسطورة الزائفة» في «جثمان مجهول الهوية»

«تيمة السخرية والأسطورة الزائفة» في «جثمان مجهول الهوية»

اللوحة: الفنان السوري نافع حقي

محمد عطية محمود

“في الحرب كما في الحب لكي ينتهي الأمر لابد من مقابلة مباشرة”

نابليون بونابرت

تتميز تجربة أدب الحرب في المنجز الإبداعي المتميز للقاص والروائي والباحث د. السيد نجم، بثرائها البالغ، والطامح إلى تجسيد علاقات إنسانية بينية قد تدور على أعقاب الحرب أو على حافتها أو في فلكها، مع نتائجها وآثارها المشبعة بمختلف الأحاسيس الإنسانية من نصر وهزيمة وانتصار وفقد، وذهاب وعودة وعجز، وولوج وإدبار في الحالة النفسية المصاحبة لتلك الحالات الإنسانية، مع ما يشعل الحالة الوجودية التي تثير جدل العلاقة بين الموت والحياة، فالحرب حمالة أوجه كما التاريخ، وهي الحالة المشعة التي نجدها في نصوص سردية عدة سواء في متن مجموعات قصصية أو روايات، يعمل فيها الوعي النفسي والذاكرة البصرية دورًا مهمًا في تحويل تلك الآثار إلى بقاع إنسانية لا تفقد ألقها ووجودها كبؤر مشعة دالة على تواريخ ما بين الحروب وما بعدها، وما يظهر من خلالها كملمح أنثروبولوجي، وميثولوجي أيضا يتمثل في الظواهر التي ربما تحولت إلى أساطير عبر النقل والحكي المسترسل الذي يتعمق في وعي الشعوب،    والقادر أحيانا على إماطة اللثام عن بعض القضايا الوطنية والجوهرية والفاصلة في حياة الوطن والفرد المقاتل ومجتمعه على حد السواء، أو طمس الحقائق على جانب آخر مغاير، ما يتماس مع المجتمع الإنساني العام الذي تختلف صور تناوله لآثار الحرب وظلالها مع اختلاف الأيديولوجيات والتوجهات عبر بقاع العالم الذي يتأثر بالحتم بالحرب كعنوان للدمار، أو الأمن المترتبين عليها كوجهين لعملة واحدة، ونرى نماذجها المتعددة على مستوى العالم بأسره، في قرن الحروب العظمي القرن العشرين.

في نص “جثمان مجهول الهوية”(١) تبدو العلاقة وطيدة بين ملمحي “السخرية”، و”صناعة الأسطورة” الزائفة التي تصنعها الأحداث الملتبسة بالحقيقة وتعبر عنها بهذا المزيج، حيث يتفجر الحدث القصصي/ السردي/ الحكائي انطلاقًا من حدث يكاد يكون واقعيًا إلى درجة التماهي معه، لاهثا لاستشراف/ استنباط/ تتبع ما يمكن حدوثه بهذه الصورة المتصلة زمنيًا، ولا يقطعها إلا فاصلان ينقلان تتابع الأحداث كالقطع المشهدي، بحيث يضرب في عمق تاريخ تتداخل خطوطه وتتقابل لتصنع هذه الحالة من العبث الذهني المختلطة بالسخرية، والتي تؤدي نهاية إلى تزييف الوعي من خلال حالة أسطورية أكثر زيفًا أو بعدًا عن الحقيقة.

بدايةً يفتح العنوان الدال الطريق أمام حالة من الشك التي تدفع في اتجاه البحث القائم على تكهنات وإعمالات ذهنية تعبر إلى حد بعيد على انغماس الوعي في بقاع غائرة قد لا تعبر عن الإحساس الحقيقي بمفردات الوجود أو الحالة الإنسانية التي خرج من رحمها الحدث المراد سبر غوره مع تتبعه الحثيث، وهي انطلاق لجدلية العلاقة بين الحياة والموت، وهذا المآل الذي تم اكتشافه ربما بالمصادفة وهو ما يقرن به حالة العبث التي تحكم هذا المشهد الواقعي التأسيسي: “فور انتهاء مجموعة الجنود من جمع الرفات، لم يكن سوى حفنة من العظام، أخفوها داخل اللفافة القماشية ناصعة البياض، حوطوها بقماشة مصبوغة بعلم البلاد.. إكرام الميت دفنه”

إلى هذا الحد من السرد؛ فالحالة الواقعية تمضي في مسارها المعتاد الذي لا يشي بأي سلوك مغاير لما تكون عليه مثل تلك الحالات في الواقع، إلا أن المفارقة النصية التي تأتي بعد ذلك لتغير مسار الحدث العارض في توقيته، والمعتاد في سياقه الإنساني الوجودي، إلى حالة من الاستنفار الموازية لحالة الحرب التي فقدت الجثة حياتها على أعقابها، والملتبسة بتواريخها التي تشتعل من الأذهان المحيطة بتلك الجثة أو بالأحرى الرفات: “انبرى الطبيب الشاب المرافق للجنود، شرد بناظريه ثم عاد ومال نحو الهيكل العظمى أعلى الرمال، ها هنا على مقربة من شاطيء القناة في اتجاه سيناء، وقال: (لست من علماء الآثار، لكنى أقسم أنها مومياء فرعونية، طالها الإهمال)…”

هنا يلتمس النص أولى محاولات العبث التي تتوارى خلف عملية البحث اللانهائية التي لا جدوى منها سوى إشارة الشكوك والتكهنات والتماس الحدس المقرب أو المتباعد عن الحقيقة، والتي تنم عن توجه جدلي لا يتوقف من خلال المعتقد الراسخ في ذهن كل جندي من الجنود الذين يقومون بتنفيذ أوامر التنقيب، والذين يمثلون أدوات في يد قادتهم أو المشرفين عليهم، فيسقط كل منهم رغبته على كون هذه الجثة لشهيد ينتمي إلى معتقده، حيث يبدو التسلسل الخطي للحدث شاهدًا على هذا التوتر الانفعالي الذي تنجرف إليه الشخوص المتحلقة حول البحث عن هوية الجثة، والتي ربما تحوَّلت للبحث عن هُوية المكان أو محاولة الإسقاط على ذلك: “لم ينته الحوار المنفعل، كل منهما يسرد الدليل الدامغ الذى يثبت به وجهة نظره.. بينما انشغل الجنود في مهمة تخصهم وحدهم. لم ينفذوا الأوامر بنقل الجثمان إلى سيارة الإسعاف مباشرة، بحركة هينة وضعوا الجثمان على الأرض ثانية، بحلق أحدهم في السماء يبحث عن قرص الشمس”

حيث يمثل الاتجاه إلى الطقوس الدينية هنا ملمحًا من الملامح الراسخة والتي تركن إلى الانتماء إلى المعتقد لا الانتماء إلى الأرض – التي سقط عليها الشهيد المفترض وفاضت بها روحه – لتتوه تلك العقائد ولا تفلح في الإفصاح عن هوية هذه الشخصية الحائرة التي سلَّمها النص للمجهول يعبث بها ويضعها على محفات التساؤل المختلط بتلك المسحة من السخرية التي تنساب من تصرفات الجنود وردود أفعال قائدهم:

فعلق الضابط: المشكلة لو طلع من أجدادنا الفراعنة بجد ويتبع ديانة إخناتون!

لتصل مسألة التكهن إلى طريق مسدود، ولا يفض التباسه إلا التشبث العجيب والمفرط بتفاصيل الهُوية التي يبحثون عنها، والتي يتسع لها نطاق البحث لتتوسع في المكان وما حول المكان ربما لتصنع متاهة جديدة من متاهات البحث، وكحُجة جديدة يتولد منها الرمز وتتوالد التكهنات وينفتح باب وباب جديد للسخرية، ويتمادى الجو المظاهر للحالة في تفنيد كل الافتراضات التي تترى على ألسنة الجميع بنفس سمة السخرية وإن اختلفت مستويات مرارتها، لتعبر الحافظة التي وجدوها كأثر للشهيد المفترض – الذي تحول إلى أيقونة أسطورية دون حيازة أسبابها الخارقة التي ربما نبتت عن أفعال واقعية تجاوزت هذا الواقع ورسخت لحضورها في صورة العظيم أو الذي أتى بما لم يأت به الأوائل كنموذج للأسطورة – عن المعادل الموضوعي لحياة الشخص/ الصندوق الأسود الذي تُفك به شيفرته!!

ثم يأخذ النص القصصي – اللاهث – منعطفًا جديدًا في نوع من المفارقة، من خلال تلك الحوارية المتصاعدة الوتيرة لتعميق حجم مأساة تلك الشخصيات في ذهنها المشوش المكتظ بالتهويمات والتكهنات التي تميل إلى الجانب الغبثي المقترن بالسخرية التي تنضح من كلام القادة، ومن الأفعال الضمنية التي يتناول بها الجنود هذه الحالة الاستثنائية التي تمجد أثرا ربما لا وجود له إلا في أذهانهم:

“كانت المفاجأة تلك العملات المعدنية، لم تكن عملات مصرية كما توقعا، كانت عملات معدنية صغيرة للعدو؛ فنظر الضابط إلى رفيقه:

  • هل تعلم معنى تلك العملات مع الشهيد؟
  • كان بطلًا، يبدو أنه شارك في معركة وأسر أحد جنود الأعداء، واحتفظ بتلك العملات للذكرى
  • بل معناها أنه من شهداء حرب 73
  • أعلم أن هناك بعض البطولات في حرب 67 أيضًا.. وربما

يأتي التأكيد هنا على العلامات الإشارية التي تنطلق من الشخوص التي ربما دخلت في سجال عنيف من أجل التكريس لأسطورية الرفات/ الجثة/ الجندي غير المعلوم الهوية ولا الاتجاه، ولا المعتقد الوطني الذي يفصل بين الولاء والخيانة، فيما نظروا في معتقده الديني وركزوا عليه، وهي لا شك مفارقة جديدة من مفارقات النص، وذلك بدخول الحالة في نطاق السفسطة التي تفلح نهاية في تعبيد الطريق أمام  صناعة تلك “الأسطورة الزائفة” التي تسبغها أقوال الجميع على تلك الشخصية المجهولة، تلك التي تكتمل أبعاد أسطوريتها حينما تنتقل الحالة من الوعي الجمعي المحدود إلى الواقع الجمعي المفتوح على المجتمع بداية من القريتين اللتين تنازعتا على نسب الشهيد (المفترض، والمبتدَع) برغم كل ما أثير حوله إلى أي منهما، ثم إلى المجتمع العام من خلال ذيوع تلك الأسطورة التي توكدت لها أسبابها، ليخلدها التاريخ الذي أكدنا على حمله لأكثر من وجه ووجهة!!:

“في الصباح التالي، كانت جنازة عسكرية مهيبة، تناقلتها شاشات التليفزيون، واستراح الجثمان في مقابر الشهداء، وتقبل أهل القريتين العزاء في الفقيد، والجميع على يقين أنه شهيد قريته”

تلك المفارقة النصية المدوية، والتي رسم لها النص القصصي أبعادها ومهد لها الطريق، لتكون شيئا غير قابل للاستنكار، ولكنه قابل للدهشة والعجب، والتي يُختتم بها النص إسقاطًا على مدى الوقوع في أسر الأسطورة بهذا الإلحاح العجيب على تكويتها وتجسيدها بهذا الملمح الساخر الذي يفرض وعيًا أكثر زيفًا، ويضع الحقائق في خانة النسيان/ المجهول، أو التلاشي، ومن ثم إثارة أزمة الهوية الضائعة بتلك الإحالة الرمزية؛ ليبقى فقط لنا أن نشير إلى أن الأنسب أن يكون عنوان النص هو “رفات” مجهولة الهوية، وليس جثمانا، لتغير الحالة الفسيولوجية للجثمان إلى رفات وعظام، وهو الذي تؤكد عليه فلسفة النص في جدلها للعلاقة ما بين الموت والحياة، وهذا المآل الذي كان حجر أساس لهذا النص الجدلي، والتي تبدو من كل زوايا النص وأركانه التي تلعب على أثر هذا الموت أو على حافته، فجل الأحداث في خطوطها المتوازية تكرس لتلك الحالة التي يواجهها النص بملمحي السخرية والأسطورية الزائفة.


(١) نص قصصي منشور في مجلة الثقافة الجديدة 2019، ويصدر قريبا ضمن مجموعة قصصية للكاتب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.