اللوحة: فريدريك نيتشه بريشة الفنان النرويجي إدوارد مونك
ترجمة صالح الرزوق

الجينيالوجيا كلمة رمادية وحساسة وتوثيقية وتحتاج للصبر(1). ونشاطها في مجال المخطوطات التي تتقاطع وتتداخل، ولذلك تسبب للإنسان الاضطراب، وتنشط أيضا في مجال الوثائق التي تحتاج للتفتيش الدقيق والتكرار. على هذا الأساس من الواضح أن بول ري أخطأ حينما استعمل الأسلوب الإنكليزي في وصف تاريخ الأخلاق ولجأ لمصطلحات التطور المتسلسل – واختزل تاريخه وتكوينه كله في هم وظيفي شامل. وافترض أن الكلمات تحتفظ بمعانيها، وأن الرغبات لها اتجاه واحد، وأن الأفكار لا تتخلى عن منطقها. وتجاهل حقيقة أن عالم الكلام والرغبات قد تعرض للانتهاكات والصراعات والتخبط والتنكر والخطط. من هذه العناصر استعادت الأصول والسلالات تماسكها الضروري: وكانت تسجل الأحداث الفردية من وراء أي مجاز مثالي. وكانت تبحث عنها في الأماكن غير الواعدة. وفي مواضع نشعر أنها من غير حس تاريخي– في العواطف والحب والوعي والغرائز+. ولا بد أن هذه الأحداث تنحو للعودة، ليس لتتعقب منحنى تطورها المتدرج، ولكن لتعزل المشاهد المختلفة التي ترتبط بواسطة أدوار مختلفة. وأخيرا، على السلالة أن تحدد تلك الحالات حينما تكون فيها غائبة، واللحظة التي تكون فيها غير مفهومة وخارج الملاحظة (أفلاطون، في سرقسطة، لم يتحول إلى محمد).
وعليه إن الجينيالوجيا تتطلب الصبر ومعرفة التفاصيل، وتعتمد على تراكم هائل للمصادر.
إن “لحظتها السيكلوبية”(2) مركبة من حقائق ثانوية ومحددة ظاهريا، وتتبع مسارا شديد الحيوية. ولا يمكن أن تكون نتاج “أخطاء كبيرة ولها معنى”(3). باختصار الجينيالوجيا تتطلب متابعة مستمرة ومرهقة. والجينيالوجيا لا تتعارض مع نفسها ولا مع تاريخها، فنظرة الفيلسوف العميقة، إذا كانت عن مقربة يمكن مقارنتها مع سلوك الخلد. بالعكس من ذلك الجينيالوجيا ترفض الأبعاد الميتا – تاريخية التي ينطوي عليها المعنى المثالي والغائيات غير المحددة. وتعارض نفسها وتركز على البحث عن الأصول.
إعداد وترجمة صالح الرزوق – جامعة حلب (سوريا). وتدقيق: د. حمزة عليوي (جامعة كربلاء/ العراق).
*هذه المقالة ظهرت لأول مرة في “تحية لجين هيبوليت” (باريس: منشورات الجامعة الفرنسية، 1971) ص 145-172. مع تعليق لنادي الإبستمولوجيا. وقد شكل الفصل الافتتاحي لكتاب حفريات المعرفة، والمقالة تمثل محاولة فوكو لشرح علاقته مع تلك المصادر والتي تعتبر أساسية في مسيرته. وأهميتها أصيلة وغير مبالغ بها، لأنها توضح وتحدد أهداف فوكو ومراميه.
الهوامش:
1. إعداد. انظر: مقدمة ف. و. نيتشة لـ عن جينيالوجيا الأخلاق (1887)، في كتابات أساسية لنيتشة، تحرير وترجمة والتير كوفمان (نيويورك: المكتبة الحديثة، 1968)، مقطع. 4،7.
2. ف. و. نيتشة، العلوم المرحة (1882). ترجمة والتر كوفمان (نيويورك: راندوم هاوس، 1974). رقم. 7.
3. ف. و. نيتشة، هذا هو الإنسان (1878، نيويورك، غوردون بريس، 1974). رقم 3.
ملاحظات المترجم:
لا يمكن أن تكون العاطفة ومشاعر الحب بلا معنى تاريخي. فهي ليست مؤبدة أو مطلقة. وقد عاود فوكو النظر لاحقا بهذا المفهوم وأشار لتطور المشاعر البشرية من معرفة – إلى إحساس – إلى تعبير. وهذه كلها دوائر يلعب بها التاريخ وتطور أساليب الوعي لعبته. فالحب المثلي كان ميزة عند الإغريق كما ورد في تاريخ الجنسانية (الانهمام بالذات)، لكنه أصبح عيبا مع التحول في مفهومنا لمعنى وأصل الأخلاق والعيب. وعاد ليحتل مكانته الطبيعية في الألفية الثالثة. وأجازت بعض المجتمعات زواج المثليين وباركته مدنيا. غير أن الغريزة يمكن أن تكون غير تاريخية ومتعالية على معناها.