اللوحة: الفنان السوري عادل داود كردي
سعاد الراعي

الفصل الأول من رواية «خلعُ خاتم الطائفية»
لم تكن الشتيمة التي ارتطمت بأذن عفراء سوى كلمة عابرة في ظاهرها، لفظة يومية ممجوجة اعتادت أن تُلقى في وجهها بلا اكتراث، غير أنّها في تلك اللحظة لم تكن مجرّد صدى باهت، بل الشرارة الأولى التي أشعلت نارًا هوجاء ستأتي على ما تبقّى من حياتها. أحسّت كأنّ الكلمة، برغم صغرها، قد شقت جدار صمت طويل، فارتجّ قلبها قبل أن ترتجّ الجدران.
فجأة، اهتزّ البيت القديم بانفجار الباب، كأنّ عاصفة من الجحيم هبطت لتقتلع سكينته. ارتطم الخشب المهترئ بجدار الصالة ارتطام قنبلة، فتردّد الصوت في أرجاء الدار كهدير موت يقترب. وما هي إلا لحظات حتى اندفع إخوة زوجها إلى الداخل، وجوههم الداكنة عابسة كالأقنعة الغاضبة، عيونهم تلتمع بلمعانٍ راعد لا يشبه عيون البشر، بل يشبه لهبًا متقدًا بالثأر. كان المشهد أشبه بقطعان ذئاب جائعة وجدت فريستها أخيرًا.
ارتجفت ركبتاها، لكنها تماسكت بحدس غريزي، تحاول أن تفهم، أن تلتقط من وجوههم جملة تفسّر هذا الجنون، غير أنّ الكلمات تأخرت، والأيدي سبقتها بعنف صاعق. انهمرت اللطمات والركلات على وجهها كالمطر الأسود، وانغرست قبضاتهم في جسدها الضعيف، بينما كانت صغيرتاها تصرخان في هلعٍ يضاعف عجزها. تحوّلت اللحظة إلى دوامة من الألم والضجيج، والبيت إلى ساحة حرب بلا رحمة.
كانت صيحاتهم تنفجر في الهواء كالرعود:
ـــ “أهلك قتلو اخونا، زوجك!”
انكمشت الأرض تحت قدميها، كأنها لم تعد أرضًا بل هاوية تسقط فيها بلا قاع. لم تعد الوجوه وجوهًا، بل جمراً متقدًا بالكراهية. لم تعد الكلمات كلمات، بل خناجر تطعن روحها قبل جسدها. شعرت بالهواء يضيق في صدرها، مزيجًا من عرق الغضب وأنفاس الغيظ ورائحة الدم التي تسللت من أنفها إلى شفتها الممزقة. صار المكان خانقًا، كقبر حي، يُدفن فيه صراخها مع كل نفس.
لم تجد ما تفعله سوى أن تضمّ طفلتيها المذهولتين والباكيتين بذراعين مرتجفتين، تحاول أن تشكّل بجسدها الهزيل درعًا واهنًا، تعرف أنه سيتحطم أمام أول ركلة، لكنها لم تجد غيره سبيلًا لتأجيل موتهما. كل صفعة كانت تسقط على وجهها، كانت تظن أنها ستصل إلى وجهيهما، فتشدّهما إليها أكثر، وكأنها تتوسد بهما لتستمدّ من براءتهما القليل من الصمود.
كانتا تحدّقان بعينين غارقتين في الذهول، كأن العالم انحصر أمامهما في وجه أمّ تُجلَد بلا رحمة. ارتجفت أصابعهما الصغيرة وهما تتشبّثان بثوبهاالممزق، تبحثان في حضنها المرتعش عن مأوى من طوفانٍ لا يُدركان معناه، سوى أنه يهدّد كيانَهما الصغير بالانهيار.
كل صفعةٍ سقطت على وجهها، كان صداها يرتطم بقلبيهما، فيرتعشان كأن الألم انتقل إليهما خفيًّا. لم تفهما لماذا تُهان أمّهما، ولا كيف يتحوّل البيت إلى ساحة عذاب، لكنّهما شعرتا أن الكون كله قد انقلب إلى سوطٍ يجلد أضعف ما فيه: امهما، تلك المرأة التي طالما ضمّتهما برفقٍ وحمت أحلامهما من الكوابيس.
كانت دموعهما تختلط بدموعها، حتى صار البكاء واحدًا، وجسد الأم وذراعاها المرتجفتان غدتا آخر قلاع الحماية. كانت تُطوّق جسديهما بذراعين كالهشيم، تضعهما بين صدرها وجدار الضربات، وكأنها تفتديهما بكلّ ما تبقّى من جسدها المنهك. وفي عيونهما الصغيرتين ارتسمت صورةٌ ستظل محفورة للأبد: أمٌ تتكسّر أمامهما، ومع ذلك تحاول أن تبقى جبلًا.
وفي خضم العاصفة، تسللت إلى وعيها الحقيقة القاسية: لقد قُتل زوجها، ليس لأنه اقترف ذنبًا، بل لأنه رفض أن يُذعن لأوامر الطائفتين، رفض أن يطلّقها هي، “السنيّة”، ليصون دمه “الشيعي”. دفع ثمن رفضه بطعنة غادرة في دكانه، والآن جاء دورها لتكون قربانًا جديدًا يُقدَّم على مذبح الطائفية العمياء.
كانوا يريدون غسل دمه بدمها، تحويلها إلى شاهدٍ إضافي على أسطورة الثأر، إلى ذريعة جديدة تديم دورة الانتقام، كأنها ليست إنسانة من لحم ودم، بل مجرّد رمزٍ تُقاد إلى الذبح. شعرت أن الجحيم قد فُتح على مصراعيه فوق رأسها ورأس طفلتيها، وأن لا منفذ للخلاص.
لكن مأساة عفراء لم تتوقف عند هذا الحدّ. ففي الوقت الذي كانت فيه صرخاتهم تمجّد زوجها المقتول “شهيدًا كما يدعون”، لم تستطع أن تمحو من ذاكرتها قسوته هو نفسه عليها. كان شريكًا في كسرها، يغضّ الطرف عن إهانات اهله، بل يشاركهم في تجريحها وسحق كرامتها، يتلذذ بضعفها ليشعر برجولته الواهنة. لم يكن في موته خلاص لها، كما لم يكن في حياته سند. رحيله لم يحررها، بل دفعها من سجنٍ مألوف إلى جحيمٍ أعمق.
تذكّرت لياليها القاسية معه، حين كان يتركها تبكي وحدها بينما يغطّ في نوم ثقيل. تذكّرت كيف كانت أصوات إخوة زوجها تعلو في البيت، يتدخلون في كل تفاصيل حياتها، يصرخون في وجهها لأتفه الأسباب، ويضربونها بحضوره، فلا يجد في نفسه غضاضة أن يشيح بوجهه، بل ربما ابتسم في سرّه لأنه رأى فيها عبرة تذكّرها بمكانتها الدونية.
الآن، وهم يهجمون عليها كالوحوش، كانت تشعر أن الموت يحيطها من كل جانب: موت جسدها الذي يتلقّى الضربات، وموت روحها التي عاشت مديدة في قفص الإهانات، وموت أملها الأخير في مستقبل آمن لطفلتيها.
أي مستقبل يمكن أن يولد في بيت تحكمه الكراهية، وفي دولة تنخرها العشائرية والطائفية حتى العظم؟
بين ارتطام الأجساد وصراخ الأطفال، لمحت وجه ابنتها الكبرى، وقد تجمّد فيه الرعب. نظراتها الواسعة البريئة كانت كمرآة تعكس لها حجم الكارثة: ماذا سيبقى من طفولة هذه الصغيرة حين ترى أمها تُسحق أمام عينيها؟ أي ندبة ستخلفها هذه اللحظة في قلبها الصغير؟ وأي ضوء يمكن أن ينقذها من ليلٍ كهذا؟
تمنّت عفراء لو أن الزمن يتوقف، لو أن الباب لم يُفتح، لو أنّ الحياة منحتها فرصة واحدة لتصرخ في وجوههم:
“أنا لست عدوّتكم، أنا أمّ تحمل على كتفيها جرح هذا الواقع مثلكم”.
لكن صوتها كان محبوسًا في صدرها، يختنق تحت وطأة الركلات والشتائم.
كل شيء في المكان تآمر عليها: الجدران الصامتة، الأثاث المهتزّ، حتى المصباح المعلّق في السقف كان يتأرجح مثل مشنقة تُعدّ لها.
شعرت أنها غريبة في بيتها، مُجرّدة من كل حق، مُحاصرة بين ماضٍ لم يرحمها وحاضر يلتهمها ومستقبل مسدود لا يَعِد سوى بالهاوية.
وبينما كانت تُضرَب وتُهان، راودها خاطر مرّ كالسكين: ربما كانت مجرد رقم في سجل طويل من الضحايا، لا أحد سيذكرها سوى طفلتيها، ولا أحد سيبكيها في غدٍ ملطخ بالدم. وراودها شعور أكثر مرارة: أنّها لم تمت بعد، لكنها في نظرهم قد ماتت بالفعل؛ ماتت كإنسانة، ولم تبقَ سوى جسدٍ يُنهش ليُشبع عطش الطائفة للانتقام.
ارتفعت صرخات بناتها أكثر، فارتجف قلبها. تلك الصرخات لم تكن مجرد بكاء طفلتين، بل نداء استغاثة للعالم بأسره، علّه يسمع ويرى. لكن العالم كان أبكم أصمّ، كما كان دومًا.
هكذا وجدت عفراء نفسها في مهبّ الطائفية، امرأة ضعيفة بلا سند، يطحنها واقعٌ جائر لا يعرف الرحمة. لم تكن تدرك إلى أين ستمضي الأحداث، لكنها أيقنت أن حياتها انكسرت عند تلك اللحظة، وأنها، منذ الآن، لن تكون سوى ظلّ امرأة، شبحًا يلاحقه وجعٌ لا ينتهي.
عفراء… طفلة الأمس، بسمرتها الجنوبية المضيئة كدفء شمس الفجر على بساتين نخيل دجلة، وبعيونها السوداء الواسعة التي كانت تلمع ببراءة ومرح، كأنها نوافذ صغيرة على الفرح. لم يُتح لها أن تُكمل مقاعد ابتدائيتها، حتى تقدّم لخطبتها رجل من طائفة أخرى. لم يتوقف أهلها طويلًا عند حدود المذهب، فقد طغت سطوة المال على يقينهم، ورأوا في يسرِه صفقة العمر. وهكذا دفعوا بابنتهم الغضة إلى يديه كما تُدفع أمانة إلى غريب، غافلين عن أنهم سلّموها إلى قدرٍ معتمٍ لا يرحم.
ومنذ تلك اللحظة، انزلقت حياتها إلى أرض رخوة، حُفرت فيها أخاديد الطائفية بالحقد والعداوة، وصار جسدها الندي وروحها البريئة ساحةً لتصفية ثاراتٍ قديمة بين الدم والدم.
الليل كان قد بدأ يسدل ستائره الثقيلة حين خبت العاصفة الأولى. جلست عفراء في زاوية غرفتها، وطفلتها الصغرى نائمة على حجرها، بينما الكبرى تحدّق في العتمة بعينين واسعتين، خائفتين كمن شهد نهاية العالم. كان صمت الليل يقطعه صدى بعيد لرصاصٍ يتردّد في أزقة المدينة. كل شيء في الخارج يذكّر بالموت، حتى نباح الكلاب بدا كتحذيرٍ من غول يتربّص خلف الظلام.
انطفأت مصابيح الشارع، وبقي نور القمر يتسرّب عبر الشقوق، يسقط على الجدران الرطبة فيرسم أشكالًا مخيفة. أحسّت أنّ البيت كله صار مسرحًا للرعب، وأنّ كل زاوية فيه تحمل خنجرًا مخبوءًا أو عينًا تترصّدها. رائحة الدم لم تفارق المكان، مختلطةً برائحة الدخان والعرق، حتى صارت جزءًا من أنفاسها.
الآن، وقد صارت أرملة بين ليلة وضحاها، لم تجد حولها سوى صغيرتيها اللتين التصقتا بها كغريقتين تبحثان عن قشة نجاة. كان بكاؤهما المكتوم يدوّي في أعماقها كصدى سؤال مرير: “من يحميكِ ويحميـنا؟” لم تجد جوابًا سوى دمعة ساخنة انسابت على وجنتيها، تكثّفت فيها كل وحشتها. أدركت أنّها وحدها تمامًا، تواجه عاصفةً أكبر من قدرتها، وأنّ لا سند لها غير صبرٍ يذوي ودمعٍ يتدفّق.
ومنذ تلك اللحظة، دخلت حياة جديدة، أشبه ما تكون بقبر مفتوح. أُغلقت الأبواب عليها، ومُنع عنها الضوء، حتى زيارات أمّها وأخوتها حُرمت منها. لم تعد ترى أحدًا، ولا يُسمح لها بالخروج إلى السوق أو إلى جيرانها. أرادوا لها أن تتعفّن حيّة في زوايا الدار مع طفلتيها، كأنها جثة تنتظر ساعة دفنها.
ولم يكتفوا بذلك، بل خطّطوا لمصير أشدّ قسوة: تزويجها إلى شقيق زوجها القتيل بعد انقضاء عدّتها الشرعية، لا حبًا ولا رأفة، بل انتقامًا وتشفيًا. أرادوا أن يحوّلوها إلى أسيرة جديدة في بيت أشدّ قسوة، إذ كان ذلك الأخ أحقدهم عليها وأقساهم قلبًا. لا تنسى كلماته حين قال لها وبكل ما تحمله عجرفته الوقحة:
ـــ “سأجعلك جارية تحت قدمي حتى تُقبري”
هكذا، صارت عبدةً مقيّدة، مسلوبة الإرادة، يُراد لها أن تقضي ما تبقّى من عمرها في خدمة جلاديها. شعرت بالدنيا تدور بها، سوادًا كثيفَا يغمرها، دموعها تفيض حتى كادت أن تذيب جفونها، وصوت داخلي يلحّ عليها بسؤالٍ لا ينطفئ: “كيف الخلاص؟“
كانت الأخبار تتسرّب إليها خلسةً كهمسٍ بعيد، تحمل معها وجعًا آخر أثقل من طاقتها: أهلها لم يكونوا في منأى عن التهديدات التي تلاحقهم ليل نهار. لم ينجُ أحد من لعنة الدم التي صارت تطاردهم أينما حلّوا، كأنهم شركاء في جريمة لم يعرفوا عنها سوى وقعها على ابنتهم. حاولوا جاهدين أن يثبتوا براءتهم من التهمة التي طالتهم ظلمًا، يطرقون الأبواب، يستجدون العدالة، يرفعون أصواتهم أمام كل من يُصغي، لكنّ الحقيقة ضاعت بين جلجلة الثأر وصمت الخوف، فظلّت صرخاتهم معلّقة في الفراغ، بلا صدى.
ولمّا ضاق بهم الوطن، عزَموا على الرحيل، تاركين العراق كلّه خلف ظهورهم، يلوذون بالمنفى هربًا من سطوة الدم المهدور. أرادوا أن يأخذوها معهم، أن ينقذوا ابنتهم من المصير الأسود، لكنّ أخ الزوج سدّ الطريق، وتصدّى بوجهٍ متجبّر كأنه قاضٍ ينطق بحكم القدر. اعتبر نفسه الوريث الشرعي لأخيه في كل شيء، حتى في زوجته وطفلتيها، ففرض سطوته عليها كما يُفرض الليل على نهارٍ أعيا.
كانت هي تسمع عن مآسي أهلها من بعيد، فتشعر أنهم يواجهون مأساتها بوجه آخر، كل منهم يقتطع من قلبه ليحفظ كرامته ويثبت براءته، بينما هي تُساق إلى مصيرها كجارية مسلوبة الإرادة. أيُّ عجزٍ هذا الذي جعلها تتجرّع ألمها وحدها، وأيُّ ظلمٍ ذاك الذي طعن أهلها مرتين: مرة حين خسروا ابنتهم حيّة، ومرة حين وُسموا بعارٍ لم يرتكبونه؟
هكذا غدت مأساة عفراء مأساة مضاعفة، لا تخصّها وحدها، بل انسكبت ظلالها الثقيلة على أهلها جميعًا؛ كلهم عالقون في دائرة ظلم واحدة، وكلهم ينزفون بلا عدالة، فيما القدر يسخر منهم جميعًا.
عندها راحت تسأل نفسها بأسى يائس: أية حفرة مظلمة وقعتُ فيها؟ أي مستقبل ينتظر ابنتَيها؟ أسئلة كالسياط تتناوب على رأسها، تحرق روحها ليلًا ونهارًا.
كلما خطرت ببالها فكرة الانتحار كمهرب، ارتسمت ملامح طفلتيها أمامها، حاجزًا يمنعها من الفناء. أي يدٍ ستمسح دموعهما إن رحلت؟ أي صدرٍ سيحتضنهما إن تركتهما؟
ظلّت معلّقة بين هاوية الانتحار وظلمة المصير الذي يُحاك لها، تتقلّب بين العجز والرعب، تبحث عن بصيص نورٍ في نفقٍ لا نهاية له. كانت تدرك أنّها ليست سوى ضحية صغيرة في حرب طائفية كبرى، وأنّ حياتها الممزقة ما هي إلا مرآة لعنفٍ أعمى يحكم البلاد.
عفراء… امرأةٌ ضعيفة لم تختر قدرها، ولم تجد من ينصفها، محكومة بقوانين لا ترحم، وبأعراف لا تعرف غير الثأر. كل ما بقي لها أن تتشبّث بطفلتيها، لعلّ حنانهما يمدّها بجرعة حياة، أو يهبها شجاعةً لمقاومة ليلٍ طويل، ليلٍ قد يطول حتى يتماهى مع الأبد.
(يتبع)