اللوحة: الفنان السوري بسام الحجلي
في رائعة وحيد حامد «النوم في العسل» قدّم نبوءة مصرية خالصة وخطيرة: أن يفقد الإنسان المصري المرهق، المهزوم، والمستهلك، النعمة التي تقوم عليها الأسرة وتمنح الإنسان شعورًا بأن في الحياة بقية متعة… وبالمجان. وتخيّل آثار هذا المرض إذا أصبح وباءً شعبيًّا، وتخيّل أيضًا ردود أفعال الناس والسلطة والشخصيات الوطنية والإنسانية أمام هذه الكارثة النادرة.
وبرأيي، تحققت نبوءة وحيد حامد بالفعل، لكن على نحو أوسع وأشد؛ لأنه تخيّل مرضًا واحدًا ونعمة واحدة تُسلب، بينما الواقع أن أمراضًا كثيرة تفشّت بين المصريين، ونِعَمًا عدّة مماثلة تلاشت، وما زال سيناريو المرض وفقدان النِّعَم يتكرر.
في الماضي، كانت العصبية – مثلًا – تُعتبر طبعًا بشريًّا وقدرًا إلهيًّا، فنطلب من الزوجة أو الزوج الصبر على عصبية الطرف الآخر. أمّا اليوم، ومع التقدم العلمي والطبي والنفسي، أصبحت العصبية مرضًا يجب علاجه. فالشخص العصبي يعاني درجة من الانهيار النفسي أو الاضطراب العقلي، والعلاج متاح، خاصة حين يكون المرض شائعًا. ومع ذلك، لم يلتفت أحد إلى هذه القضية الخطيرة حتى الآن، فكانت النتيجة مزيدًا من المآسي: شقاق، عراك، طلاق، ومحاكم مكتظة بالقضايا.
ولو كان هذا المصري الذي أصابه الانهيار العصبي يعيش في بلد آخر، فهل كان سيصاب به؟ المعضلة أننا في مصر لسنا كغيرنا؛ ففي البلاد الأخرى تنشأ العصبية غالبًا من التربية الأسرية، أمّا نحن فنتعرض على مدار الساعة لآلات لا حصر لها تبث أسباب العصبية والانهيار النفسي. الضغوط هنا ليست عادية أو مقصودة فقط، بل هي وليدة تخلي الجميع عن الجميع.
مصر أشبه بأسرة كبيرة كثيرة الأبناء، كان يرعاها أب وأم يلبّيان حاجات كل طفل دون أن يزرعا بينهم روح التعاون أو التعاطف. وعند وقوع الخلافات، كان الأبوان يحلانها بطريقتهما. ثم جاء يوم تطلّق فيه الزوجان وتزوج كلٌّ منهما بشخص آخر، وترك الأبناء لمصيرهم. في هذه اللحظة، لم يكن أمام الأبناء سوى التعاون لتعويض ما فقدوه، لكنهم – وقد تربّوا على الأنا – ازداد شقاقهم وعراكهم. ومع كل معاناة جديدة تولد أمراض نفسية، ويتبع الفشل مزيد من الفشل، ويزيد الكبت الأمراض.
وهكذا هو حال المصريين في العقود الأخيرة: تخلٍّ من القمة، وأنانية تسري في القاعدة، وفشل، وأمراض، وكبت… ثم نوم في العسل.
القصة ليست عن العصبية أو الانهيار النفسي فحسب، بل عن البخل، والصراع على المال، والشقاق المستمر في بيئات العمل، والتنافس غير الشريف، وسباق النفاق. الهواء – كما نعلم – مكوَّن من خمس أكسجين وأربعة أخماس نيتروجين، لكنني أزعم أن أربعة أخماس النفاق تسري في التعاملات اليومية للمصريين تحت مسميات مختلفة. لا جدية، ولا صدق، ولا صفاء قلب، ولا ثقة.
لقد تخلّى عن المصريين النخبة والسلطة والمجتمع، ليس بالتخلي فقط، بل بالتعامل معهم كدواجن في حظيرة، أو كخراف في مصنع صوف وألبان ولحوم. والحل واحد لا غير، لا بد أن يتعاون أفراد المجتمع على التشافي فرديا وجماعيا، وما حك جلدك مثل ظفرك.
لا شك عندي أنه من أفضل أفلام السينما العربية وربما العالمية، ولأن الكمال لله تعالى، أريد أن أتحدث عن مآخذ لي على سيناريو الفيلم.
لا شك أن مسألة الفحولة من أهم المواضيع التي تهم الرجل الشرقي؛ فالرجولة عندنا تختزل في الذكورية، أمّا ما يتردد عن أن الرجولة قد تعني الوفاء بالعهد، أو الصلابة، أو التحمل، أو بقية القيم والأخلاق الأخرى، فهذا كله مجرد توابع فرعية ليس لها وزن حين تُتَّهم الذكورية أو تضعف.
تتكثف خفة دم الفيلم في دائرة الفحولة والذكورية، ولكن تكثفت أكثر في سيناريوهات ردود أفعال من تتعطل عنده الاستجابة لهذه الغريزة، ومثال ذلك:
يبدأ الفيلم بمشهد العريس الشاب الذي يترك عروسه ويتصدّر للقطار وينتحر!
قد يكون فشله مؤقتًا، وقد يكون مرضًا عضالًا، ولكن مهما كان السبب فسيناريو انتحاره لهذا السبب يُلهم ويُبرمج الشباب بجهل مركب. فحين يتقبل المشاهد هذا المشهد دون أن تتحرك داخله آلة النقد – سواء كانت عقلية أو غريزية – يصبح المشهد كارثة. فالسينما سلاح خطير، ولو تخيّلنا أن الممثل في الفيلم فقد ذراعًا أو قدمًا أو بصرًا ثم أقدم على الانتحار، لما قبل المشاهد هذا الحدث، ولتحرك في نفسه حديث عن أن الحياة غالية، وأن الإنسان لو فقد نعمة يجب عليه أن يدرك أنه يتمتع بنعم أخرى كثيرة. ولكن حين تكون النعمة المفقودة هي القدرة الجنسية، فلا بد أن تتعطل ملكة النقد، لأن في قناعتنا – سواء أدركنا أم لم ندرك – القدرة الجنسية تعادل الحياة. وهذه خدعة كبرى. ومن واجبات السينما فك هذه الخدعة وتلقين الإنسان ميزانًا معتدلًا يزن به النعم، ومعها يزن ردود أفعاله وانفعالاته في الحياة.
ومثل ذلك الأفلام التي يقتل فيها الرجل ابنته في قضايا الشرف… وهذه كانت بدايات معادلة قضايا الشرف والذكورة بالحياة.
يستمر الفيلم بنفس السيناريو، فيجعل الفشل في العلاقة له نتيجة وحيدة: شجار بين الأزواج دون أن يجرؤ أحد على النطق. قد يكون الشجار نتيجة معقولة للبعض، ولكن أن تكون ظاهرة شعبية! فهذا أيضًا مزيد من التلقين بردود الأفعال الضالة. فشل طارئ لعلاقة زوجية يتبعه شجار وتدخل الشرطة! هذا المشهد يخدم الفيلم كوميديا، ولكنه يواصل البرمجة بأهمية وخطورة الحدث بحيث ينتج فورًا تزاحم الشعب على أبواب أقسام الشرطة.
هذا الرجل الأمي الذي قتل زوجته حين نطقت عقب فشل العلاقة! مشهد كاريكاتوري صارخ، ولكنه يكرّس الشخصية الغبية التي تفقد عقلها حين تتعطل ذكوريتها وتتلقى كلمة فيها تلميح بالمعايرة. وضحك الناس على هذا المشهد، ولكن لم ينكره أحد، ولم يشعروا أنه خيال علمي. حتى مشهد الضابط الظريف الذي يحمل هم الشعب، يتغاضى عن تعذيب الرجل حين تراجع عن اعترافه، ومر هذا المشهد بسلام، وكأن التعذيب والإهانة أيضًا لا تتعارضان مع نبل بطل الفيلم.
لقد تدرب الشعب على حمل التناقضات بدرجة مذهلة… ولا يشعر بالتناقض بل بالانسجام!
وهذا الرجل الذي أراد تجربة نفسه في بيوت البغاء، ربما ليسترد فحولته، وحين يفشل ينزلق إلى مشهد العنف وتكسير الشقة. وبهذا نلحظ أن مشاهد ردود الأفعال هي:
«انتحار – قتل الزوجة – شجار جماعي ولجوء للأقسام – إخفاء وسرية الألم والمرض العارض – لجوء رجل لأول مرة للزنا على أمل الشفاء ثم تحطيم المنزل».
أخيرًا، كانت النهاية العبقرية التي لا تسمح الرقابة بغيرها… نهاية لم تجد أمل حل إلا من أعلى، من السلطة. وحين لم يستطع أن ينطق، صرخت المظاهرة بالآه… آآآآه.
وربما يأتي سيناريست من بعده ييأس من السلطة، ويصب أمله في الناس… في تغيير أفكار الناس وتعليمهم أن يعيشوا كالتروس، لا كدوائر بلا أسنان.
أخلص من هذه الملاحظة إلى عدم انتباهنا إلى إرشاد الجمهور للقيم؛ فحين نبث قيمة نبعثر بجانبها قيمًا معاكسة. الفيلم ينبه إلى أن القهر والكبت والهم والفوضى والغلاء وكل ما يعاني منه المواطن قد يحمل الجسد على التمرد، فيستسلم بطريقة عبقرية مؤلمة، فيُحرم الإنسان – الذي رضي بقهره في الخارج – من روح تسري فيه وتشعره بمشاعر سامية، تحرمه من العلاقة الخاصة، المجانية، التي لا توصف لروعتها… فتكون الخسارة أفدح من كل الخسارات التي حدثت في الخارج.
نجح الفيلم في بث هذه الفكرة الرائعة، ولكن ما بثه من برمجة ردود أفعال عشوائية وجاهلة كان من الممكن – بمزيد من الجهد – استبداله بسيناريوهات أخرى تتجنب هذا الأثر السلبي.
رحم الله «وحيد حامد» السيناريست والمفكر النادر، الذي جعلنا نرى أنفسنا بوضوح حتى وهو يصوّر كوابيسنا.
