عازفة الناي

عازفة الناي

د. محمد جابر

اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشنر

شمس حنون، تمد كفها الدافئة على قباب مساجد القاهرة المحزونة، تكاد تنطق لتبعث بكلمات من غسق تواسي بها السائرين من بشر وأنعام، لتهب ريح عابثة تتلاعب بثياب كل من تتلمسه، إلى أن رأتني تلك الريح وأنا أقبع في ركن مظلم من دكان الحدادة بحارة القرادتية، ثم وجدتها تتجه نحوي في مرح طفولي لتتلاعب بشعرى الذي أهملته الأيام الحزان، لم أرفع إصبعا لأعيد ما تساقط على وجنتي البيضاء التي كانت تجلب النساء إلى دكان يحتله كير أسود قبيح، ينظر إليهن في دهشة، أحقا يردن أن يستنشقن دخانه الأسود؟ لكن ذلك الموقد الأسود لم يعرني بالاً يوما بل كان يتركني أتبسم ساخرا من نفسى والكير والنساء.. حتى هتك ستر الصمت صوتا مجلجلا أعرفه وأخافه..

  • واد يا حسنين
  • أيوه يا معلمي
  • يا واد قلت مية مرة اسمها نعم.. أمرك يا معلمي
  • حاضر قصدي نعم أمرك يا معلمي
  • أيوه كده يا غبي
  • أنا آسف يا معلم
  • آسف على إيه يا واد انت عملت حاجة يا زفت
  • لا والله بس آسف على غبائي

يهز المعلم عنتر الحداد كتفيه في سخرية، ويومئ برأسه التي يسكنها جنود من شعر مجعد تتخللها مواكب من بياض قبيح، ليشير إلي في النهاية بأن أطفئ الكير، وأغلق الدكان قبل أن يذهب دون أن ينظر إلى الوراء، مثل كل مرة تغيب فيها الشمس متدثرة خلف جدران الليل.

أسرعت لأغتسل في بيتنا المتواضع، وأحث الخطا حتى أجد مكانا حول عم شحاته عازف الربابة في قهوة سمعان الدكر، الذى يتوه صوته بين دخان الجوزة وأنين الربابة بين أصابعه.. مرت لحظات حتى وجدت نفسي مرهف الأذنين ملجم اللسان، أرى وأسمع ما ينثره عم شحاته من أهوال وحكايات تأخذ بلبي وبلب من حولي.. لكن هذه الليلة لم تكن كسواها ولن تكون.

أخذت ألملم ما كان يسبح حولي من صور وأهات عن ساكني الأرض وما تحتها، التي كان يقذف بها عم شحاته الزمار وسط ذهول الجالسين.. حتى.. وجدتها تجلس أمامي في الهواء ممسكة بناي مشقوق، تضع فمها العذب على مبسمه وتهمهم، فإذا به يصدر آهات ثم صرخات يلاحقها بكاء صريح، وتمر لحظات حتى تكف عن همس العذاب.. كنت أرقبه وأرقبها وأتمنى أن تصب في أذني ببعض الكلمات التي سأحيا بها باقي أيامي وكل ليالي.. وكأنها سمعتني.

وجدتها تنظر إلى دون سواي من الحاضرين الهائمين وأشارت إلي أن أقترب.. فعلت وأنا حائر لأجد اصابعها الرقيقة وقد لامست خدي الأيمن لم أدر ما أفعل قربت شفتاها من نفس المكان فإذا بي أنهض صارخا من بين الجالسين والملم ثيابي الرثة ثم أنطلق هاربا إلى بيتنا التي تقطنه أمي العمياء، حتى اجتزت البوابة الخشبية التي سألتني بزئير هامس عن سبب خوفي لم أخاطبها بكلمة لكنى ألقيت بكل ما في من خوف إلى حضن أمي التي احتضتني في لهفة وقالت، لكن بصوت خفيض:

  • مالك يا ضناي مالك؟

قلت والدموع تخنقني

  • ما فيش حاجه ياما اشتقت لحضنك بس

ضحكت العجوز طويلا

  • يا واد إنتي حتضحك على أمك أنا عاجناك وخابزاك
  • والله يا أما ما فيش حاجه مهمة
  • يا حسنين يا ابني إيه اللي حصل؟ أنا ستر وغطا عليك
  • عارف يا أما بس ما فيش حاجه صدقيني
  • ماشي يا حبة قلبي زي ما تحب 

تململت في حضنها الدافئ 

  • خلاص يا حبيبى انت ارتحت

وكأنها أدركت أن خوفي قد ذاب كالملح في نهر حنينها المتدفق

نهضت في تتكاسل

  • أيوه يا أما خلاص
  • حسنين
  • ايوه يا أما 
  • حاسب على روحك يا ضنايا انا ماليش في الدنيا غيرك
  • هو إيه اللي حصل يا اما لكلامك ده
  • لا يا عنيي ده قلب الام بس 
  • ماله قلبك السكر ده 
  • قلبي شايفك وانت داخل في طريق ظلمة عايز تشرب من بير غويط
  • مش فاهم حاجه
  • مش مهم يا ضناي.. حاسب بس على روحك

تركتها وأسرعت إلى فراشي النائم في ركن بعيد من منزلنا الصغير وأنا اتعجب كيف رأت أمي العمياء محبوبتي الجديدة وهي تريد ان تقبلني وكيف طمأنت فزعي من الضيفة الغامضة التي ظهرت من العدم، وأخذت أتساءل هل رآها أحد غيرى من القابعين حول عم شحاته الزمار.. ظلت الأفكار تتناوب على عقلي المنهك الذى غافلها وذهب يرتوى من ينابيع الاحلام القرمزية. 

طرقات خافتة على أرضية المنزل فتحت جفوني المتثاقلة لأجد كف أمي الحنون يدق في إصرار بجانبي 

  • صباح الفل يا أما
  • صباح الهنا وكل حاجة كويسة على عيونك يا قلبي
  • أول مرة تصحيني كده
  • لأن دي أول مرة الفجر يدن وأنت ماتكونش صاحي وتروح تصلى في الجامع إللي على ناصية الحارة
  • ياخبر يا أما وسيبتيني نايم
  • يا ابني انت كنت بتشخر جامد أوي وقلت أكيد مهدود من محل الحدادة
  • انا قمت يا أما خلاص حاتوضى والحق أفتح الدكان قبل المعلم ماييجي وأسمع كلمتين
  • قبل ماتروح الشغل عدي على الولية أم بتعة أنا موصياها تعمل لك رغيف جبنة وبصلة وحزمة كرات

ضحكت من فرط حنانها

  • حاضر يا أما سلام.. أه افتكرت 
  • افتكرت إيه يا نضري
  • مين حتقعد معاك النهاردة من نسوان الحارة
  • خالتك أم شمردل الدلالة
  • أه وطبعا حترغي لك على كل حاجة بتحصل في بيوت الزقاق كله
  • ايوه ياواد دي عشرة العمر
  • اسكت! 
  • فيه إيه؟
  • فاكر سليم الحليوه أبو عيون مكحلة ابن سيده بياعة الخضار
  • ماله ده كمان حيتجوز وأمه مش موافقه وغيرانه
  • لا يا ابنى ده اتلم على حبه شباب خدوه معاهم مش عارفه فين كده ورجعوا كلهم إلا هو
  • قتلوه يعني؟
  • ما اعرفش يا ابني بس سيده حتموت نفسها من العيا خد بالك من روحك يا حبيبي حاضر يا أما

أغلقت باب البيت الذى ودعني بصوته الشجي هذه المرة واتجهت إلى دكاني حتى غابت الشمس لأسرع إلى عم شحاته الزمار و اساله عن ما حدث بالأمس

  • عم شحاته 
  • أيوه يا حسنين
  • إمبارح وانت بتحكي حصل.. وحصل وذكرت له كل ما كان ظهرت ابتسامة وليدة أعقبتها ضحكات مجلجلة ثم هدأ كل شيء لأعاود سؤالي
  • مين دي؟
  • مين دي؟.. مين يا ابنى 
  • اللي حكيت لك عنها وكانت بتعزف على الناى و.. و.. 
  • وباستك مش كده
  • أنا جريت يا عم شحاته قبل ما تلمسني
  • دي بديعه
  • بديعة مين
  • أميرة مدينة النحاس
  • بديعة مين وأميره مين ونحاس ولا صفيح حتى 

نهض شحاته الزمار وأخذ بكفي 

  • يا ابني تعال معاي بعيد عن الناس

تبعته حتى جلس بجوار السبيل القديم 

  • شوف يا حسنين أنا من سنين طويلة كنت اسمع من ابوي المعلم حزنبل إنه وهو بيجيب سيرة بديعة كانت بتظهر لشباب حليوه زيك يقعدوا تايهين كام يوم وبعدين لا حس ولا خبر
  • بتقتلهم ولا بتعمل فيهم إيه
  • ولا حد يعرف يا حسنين يا ابني.. انسى الموضوع وطلعها من دماغك انت يا ابنى حيلة أمك العامية وحأقولك كمان حاجة إياك تجيب سيرة لأى حد وخصوصا أمك فاهمني؟

سرت بين كتفي ارتعاشة هبطت على أسفل ظهري حتى غابت

  • حاضر حاضر يا عم شحاته

سرت ليلتها، حتى أكاد لا أرفع قدمي من الأرض، حتى دخلت الباب وألقيت تحية المساء على أمي التي ابتسمت ودعتني لحضنها الدافئ، ثم ذهبت لفراشي وفى بالي ألف سؤال، وهدأ العالم من حولي لكنى كنت أسمع أنينا خافتا لناي يبكي داخل جدران البيت، بل يزحف عليها، لا بل يجلس على الأرض بجانبي إلى أن وجدتها أمامي

  • انت.. بديعة مش كده؟

تبسمت كشمس غاربة..

  • هو شحاته لحق قالك! أيوه أنا بديعة وأميرة مدينة النحاس علشان نخلص بقى

التزمت الصمت

اقتربت مني لكنى ابتعدت 

  • انت خايف مني يا حسنين
  • أيوه
  • ليه هو أنا وحشة كده
  • لا بس أنا مش فاهم حاجه
  • عايز تفهم إيه 
  • كل حاجه
  • بس كده؟ هات كفك وغمض 

ناولتها ما أرادت، ثم فتحت جفوني لأجد نفسي في ساحة واسعة بها تماثيل جميلة لرجال بهم سيماء الوسامة والقوة، وكلهم من النحاس يصطفون حول نافورة تبعث بسائل ذهبي لماع، وسط أشجار عالية مغطاه بطبقة من النحاس الأصفر الذى يذهب لونه بالعقول والأبصار.

  • أنا فين؟
  • في مدينة النحاس يا حبيبي
  • حبييك؟
  • ايوه ولو ماكنتش حبيبي ما كنتش ظهرت لك ولا جبتك هنا

نظرت إليها عن قرب أتفحص فمها الجميل الدقيق، ووجنتيها الحمراوين وعيونها الكواحل ذات الأهداب الطويلة 

  • انت حلوه أوي
  • وانت كمان يا حسنين أحلى واحد، وصمتت
  • أحلى واحد هو انت عرفت شباب تاني
  • كتير يا قلبي
  • ليه لحقتي تعرفي كتير ازاي هو انت سنك كام، مش عشرين سنه برضه

ضحكت طويلا 

  • لا يا حبيب القلب أنا جنيه وعمري فوق 7 آلاف سنه بشويه
  • جنية! يعنى انت مش بنى آدم؟
  • لا أنا جنيةّ
  • وأنا من بختي إني أحب جنية
  • تحبني؟ انت أول مرة تقول كده
  • أنا باحبك يا بديعة وأتمنى أقعد العمر كله معاكي
  • وأمك وصحابك وشغلك؟
  • مش مهم
  • ياه للدرجة دي لكن أنا مش ح اطلع طماعة وشريرة انا ح اجيب لك واحد أو وحده معاك هنا لو انت عايز تعيش معايا على طول
  • امي! عايز أمي
  • حاضر يا حبه قلبي غمض عينك وهات كفك
  • تاني هو كل مرة

ضحكت 

  • دي طريقتي ما اعرفش غيرها

مرت لحظات سريعة إلى أن سمعتها تقول

  • افتح عينيك يا حسنين أمك أهي جنبك

فتحت عيني في شوق لكي أحتضن أمي لكني تسمرت مكاني ثم سقطت على ركبتي

  • دي مش إمي
  • لا أمك والله
  • انت كذابه ده تمثال نحاس مطفي
  • أنا ماقولتلكش
  • ماقولتيش إيه
  • مافيش ست تقدر تدخل مدينة النحاس غيري وتفضل عايشه
  • يعني انت قتلت أمي
  • لا يا حبيبي أنا خيرتها
  • مش فاهم
  • صراحه أنا طلعت لها وقلت لها على كل حاجه وإنك عايزها
  • وبعدين 
  • وافقت على طول وقامت مدت كفها وغمضت عينها
  • وبعدين
  • زنا قلت لها الحقيقة 
  • حقيقة إيه 
  • انا لسه قايلاها لك مافيش ست تقدر تعيش هنا غيري
  • وامي عملت إيه 
  • الغلبانه قالت مش مهم أبقى تمثال نحاس أو صفيح حتى.. بس أبقى جنب ابني

غلبتني دموعي الغزيرة وسارعت باحتضان أمي هذه المرة بدلا من أن أغوص في حضنها القديم والتفت إلى بديعة والشرر يتطاير من عيني

  • أنا بكرهك انتي شيطانه

تبسمت في وداعة لا تليق بالشياطين

  • فعلا أنا شيطانة بس انت من ثواني قلت لي بحبك وعايز أعيش العمر كله معاكي
  • قبل ماتقتلي أمي
  • أنا ماقلتلهاش حبها لك هو اللي قتلها
  • طبعا وأكيد انت اللي قتلتي ابن سيدة برضه
  • أه الواد سليم ابو عينين مكحلة 
  • أنت عارفاه تبقي قتلتيه
  • يا حسنين اهدى أنا بعت له أولادي وهو اللي اختار ييجي هنا زي أمك حتى اسأله
  • أسال مين 

وأشارت إلى تمثال نحاسي جميل يقف بعيدا سرعان ما رأيت فيه رفيق الصبا

  • أيوه هو ده سليم الحليوه يا عيني عليك يا زينة الشباب والتفت في غضب
  • وأنا حتعملي في إيه؟
  • ولا حاجه يا حبيبي
  • ماتقوليش حبيبي
  • حاضر بس لو تهدى شويه
  • حتعملي في إيه؟

ظلت صامته ثم همت واقفة ونظرت إلي ثم ذهبت بعيدا فسارعتها بسؤال

  • انت حتمشي 
  • لازم يا حسنين الليل جاي
  • انت بتخافي من الظلمة وانت شيطانه

تبسمت 

  • لا بس اللي يقعد في مدينة النحاس لما يهجم الليل بيبقى تمثال نحاس
  • حتى انت
  • حتى أنا

الوداع يا حسنين

  • ممكن أعرف انتي بتجيبينا هنا ليه
  • مش حتفهم
  • لا أنا ح أفهم بس أنت 
  • انتم روح مدينة النحاس من غيركم كل شي يختفي ومايصبحش لينا مكان نسكن فيه
  • أنا مش فاهم.. مش فاهم

ذابت بديعة بجمالها الفتان كأن لم تكن، بينما ظللت أرقب هروب الشمس وأسمع أصوات نفير جيوش الليل، وبلا إنذار أحسست بثقل في قدمي، نظرت لأجدهما قد أصبحتا من نحاس لامع أخذ يمتد حتى وصل عنقي، ثم عجزت عن الكلام بعد أن ألجم لساني بلونه الفاقع، وكانت آخر ما رأيته أمي التي تنظر إلي بعينيها الكفيفتين، تفيضان بالحزن، حتى وضع الظلام يده الباردة على رأسي، ونظر بلا اهتمام إلى تماثيل مدينة النحاس التي ازدادت واحدا.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.