اللوحة: الفنانة الفرنسية بيرت موريسو
حين وصلني النبأ، توجّهت إليها لتقديم واجب العزاء في والدتها. هاتفتها للاستئذان قبل وصولي، قلت: علمتُ توًّا بخبر الوفاة، مثلي لا عُذر له، رجاء تقبّلي أسفي. اسمحي أن أعزّيك بنفسي، فلم أركِ منذ سنوات، لم تعد ذاكرتي تسعفني، لم أعد أتذكر لون عينيكِ: أهي سوداء كشعركِ الحريري الكثيف، أم خضراء كقطعة من الجنة أفلتت من الفردوس وسقطت على الأرض!
قالت: المصاب فوق طاقة الجميع، حتى فاتنا أن ننشر الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو مُتَّبع الآن. سأنتظرك، وسننظر فيما قلتَ للوقوف على حقيقته!
دخلتُ إلى غرفة مكتبها، رقيقة كصاحبتها: ضيقة لمن ضاقت به الدنيا، واسعة كقلب طفل يحبو أولى خطواته على الأرض.
تخلو الحوائط من التابلوهات التقليدية، كما لم أجد عبارات الوعظ التي تُذَكّر المرء بآخرته وبضرورة فعل الخيرات، التي ينساها ما إن يخرج للحياة، فضغوطات المعيشة قاسية.
كانت تقف في استقبالي ترتدي السواد كما تفعل النساء في حال الفقد بالموت. مدّت يدها البضة، فبدت أمامي لوحة سريالية، اختلط فيها بياض بشرتها الناصع بسواد بهيمي غريب.
لمستُ أناملها وأنا غارق في عينيها الجميلتين، أفتّش عن الحزن الكامن بداخلهما. أزعم أن بيّ طاقة كبيرة على إزالة ما استطعت من الحزن إن التقيته. حين رأيتها، همست: مثلها بينها وبين الحزن بون شاسع، حتى لو كانت الفقيدة أمها.
ألقيت السلام وقلت: أحرّ التعازي يا سيدتي، لكلّ منّا ساعة ستأتي في موعدها، غير أن الفقد هو ما يؤلمنا، لكن الزمن قادر على معالجة الحزن مهما عظُم حجمه.
كانت تستمع إليّ وأصابع يمينها تعبث بحبّات مسبحة من الفيروز، وعلى شفتيها ابتسامة أخذت تتسع تدريجيًا، حتى رأيتُ الحزن يتراجع للخلف رويدًا، ثم احتلت الضحكة كامل وجهها. حينها أمسكتُ يدها اليُسرى وقبّلتها، قلتُ وأنا أغادرها، ومؤذّن من بعيد يرفع بصوته الشجيّ أذان العصر: مرة ثانية، البقاء لله.
