اللوحة: الفنان الصيني زهي يونغ جينغ
سعاد الراعي

الفصل الثالث من رواية «خلعُ خاتم الطائفية»
كانت خلفيّة السيارة كأنها صندوق مُعدّ لهذا الغرض؛ صناديق مُحكَمة الإغلاق مصطفّة كجدارٍ صامت، وأرضية مفروشة ببطانياتٍ قذرة تفوح منها رائحةٌ قديمةٌ تشبه مزيج الغبار والرطوبة والسنين. لا نوافذ في هذا القفص المعدني، سوى فجوة صغيرة في الجدار الفاصل بينهم والسائق ونافذة سقفٍ صغيرة تسمح لشظيّة من ضوءٍ باهت أن تخطّ على الجدران خطاً رفيعاً يميّز بين ليلٍ كثيف ونهارٍ أقلَّ عتمة. هناك، في هذا الحيّز الضيّق، أحسّت عفراء أنّها في كهف يشبه سفينة النجاة؛ فُلك نوحٍ الذي قد ينتشلها من طوفان الجحيم الذي أغرقها، أو يبتلعها إن خانها موجُ القدر.
“تجاوزنا بغداد”، هكذا قال السائق وهو يهمس من خلف المقعد: “الآن أنتم في أمان”. ابتسمت بمرارةٍ لا يراها أحد، فالأمان في العراق صار كلمةً منزوعة النبض، قشرةً هشةً تنكسر تحت أصغر ذبذبة خوف. عفراء لا تدري إن كانت قد وضعت قدمها على طريق النجاة حقّاً أم أنّها انحدرت إلى دهليزٍ أشدّ عتمةً، لكنّها تعرف يقيناً أن الرجوع مستحيل، وأن اختبارات السماء لا تُعاد.
ضمّت صغيرتيها إلى صدرها كمن يضمّ قلبه الأخير، تُحصي أنفاسهما كي لا يخذلها الإيقاع، وتسدّ بأكفّها شقوق الارتجاف عن وجهيهما. لم يكن الخوف وحده جاثماً على صدرها؛ كان معه قطيعٌ من الأسئلة والغصّات والرجاء. إلى أين تقود هذه الطرق المتعرّجة؟ ماذا ينتظرها عند أوّل مفترق؟ وهل ستنجح في محو أثرها عن أهل زوجٍ يرون مطاردتها ثأراً مقدّساً لا يهدأ إلا بدمٍ أو خضوع؟
الهروب خطوةٌ، أمّا النجاة فحربٌ تُخاض مع الزمان والمكان والناس والقدر.
لم تعد قصّتها شخصيّة فحسب؛ صارت مرآةً لمأساة امرأة تُعاقَب مرّتين: مرّةً لأنّها تجرّأت على كسر القيد، ومرّةً لأنّ قوانين الطائفة والأعراف المتربّصة تحرس أبواب الهواء.
في دفاتر الدمّ، الأنثى ظلٌّ يمرّ ولا يُرى، ورقمٌ يُستدعى للتسويات، فإذا رفعت صوتها سُمّي ذلك فجوراً، وإذا صمتت عُدّ صمتُها اعترافاً.
كانت الرائحة الثقيلة للديزل تتسلّل إلى رئتيها، تُذكّرها بأنّها ليست سوى حمولةٍ إضافيّة على مركبةٍ تمضي. يهتزّ الصفيح عند المطّبات كأنّه يتنهّد، وتتكاثر الشقوق في الصمت: خشخشةُ صندوق، صريرُ برغيّ، نقرةُ حجرٍ على البدن القديم. ومن النافذة الضيّقة في السقف، تقرأ الزمن: عتمةٌ تتخلخل شيئاً فشيئاً، ثمّ خيط رماديٌّ يزحف على وجه العالم. خارج هذا الصندوق، تُفتَحُ محالّ وتُخبَز أرغفة وتُذاع نشرات، أمّا داخلَه فالساعاتُ تُعدّ بحركة محورٍ ومقياس وقود.
“إمّا الموت… أو الهرب إلى المجهول” هكذا تضع عفراء المعادلة على ميزان أمومتها، وتعرف أنّ الكفّة لا تحتمل الحياد. الحرّيّة ليست ترفاً حين يكون القيدُ سكيناً على عُنق البنات. كانت تتذكّر طفولتها المصادَرة، طفلةً أُلبست الحجاب قبل أن تفهم معنى الستر، ومنعت من اللعب قبل أن تتقن الهجاء. الآن، وهي تَحمل ابنتيها، تشعر أنّها تُهرّب مستقبلَهما من حفرةٍ حُفرت لهما باسم الشرف والسمعة والعشيرة، وأنّ عليها أن تدفع فديةً من قلبها في كلّ خطوة.
مدّت يدها المرتجفة إلى الهاتف، تُقلّب الشاشة كمن ينقّب عن نبعٍ في أرضٍ عطشى. ظهرت رسائل كثيرة، لا تدري متى وصلت، فالهاجسُ حين يعلو يصير حجاباً على الحواس. كلماتٌ من أهلها الذين تركوها، مثل قلوبٍ دامية وراء حدودٍ لا تُرى. ما إن قرأت السطور الأولى حتى انفجرت الدموع؛ دموعٌ حرّة كجيادٍ أُطلقت من عقال.
“نحن في عمّان… كيف أنتِ؟” أحسّت أنّ صدرها يتنفّس للمرّة الأولى منذ زمنٍ طويل، وأنّ حبلاً من نورٍ امتدّ إليها عبر الصحاري والحدود ونقاط التفتيش.
يا ابنتي، يا حبيبتي… كيف حالك وحدك هناك؟ غيابك يثقل أيامي، كأن الليل جثم على صدري.”
ثم أتبعتها بأخرى: “كل لحظةٍ تمرّ من دونك، أشعر أنني اسير في عالم فارغ. سامحيني إن قصّرت، سامحيني إن تركتك في مواجهة المصائب وحدك.”
واخرى، أشبه باعترافٍ دامع: “كنتُ أظن أنني قوية، لكنني بدونك أضعف من ظلّ يتلاشى مع غروب الشمس. أشتاق أن ألمسك، أن أضمّك، أن أسمع حتى تنفّسك.”
وأردفت: “نامي يا ابنتي بطمأنينة… فأنا أسهر لك بالدعاء. ليت يدي تطال جبينك، فأمسح عنك كل هذا العناء.”
أسرعت تكتب لهم: كلماتٌ قصيرة، لكنّها مكتوبة باتقادٍ داخليّ لا يُرى. تطلب منهم ألّا يذكروا اسمها لأحد، وأن يُبقوا على الدعاء مشتعلاً، وأن يهيّئوا لها ظلاً تدخل فيه حين تصل.
في تلك اللحظات الخاطفة، أدركت ما لم تكن تنتبه إليه من قبل: أنّ النجاة شبكةُ تفاصيل صغيرة تصنع المعجزة؛ شال يخفي ارتجاف كتف، زجاجة ماء محشورة عند الزاوية، شريحة هاتفٍ احتياطيّة في بطانة حقيبة، شهادات ميلاد مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، مشبكُ شعرٍ يمكن أن يفتح قفلاً صغيراً إن أُغلِق عليها الباب.
وأكثر من التفاصيل، كانت هناك شيفرةٌ بشريّة تُفكّك المصيدة: كلمةُ مرورٍ اتفقوا عليها مع السائق، نظرةٌ يرسلها من مرايا السيارة عبر فجوة بينهما تعني “اصمتي الآن”، وأخرى تعني “تنفّسي”. كانت تحسب المسافات بنبض قلب، وتستمع إلى حدسها لتميّز بين يدٍ تُسعف ويدٍ تتاجر بالبؤس. فالهاربون، كما تعلّمت في قسوة التجربة، يصيرون سوقاً، وأسماؤهم بضائع. لكنّها آثرت أن تصدّق هذا الرجل الذي عرّفه لها القدر، لأنّ الشكّ إن زاد حوّل الحياة إلى سجنٍ بلا قضبان.
“أنا ضعيفةٌ”، تقولها في سرّها دون جلدٍ للذات، بل باعترافٍ صادقٍ بحقيقةٍ تفرضها الجغرافيا والقوانين. ضعفُها ليس اختياراً، بل نتيجةُ منظومةٍ تُسقِط النساء خارج إنسانيّتهنّ. ومع ذلك، كانت في هذا الضعف قوّةٌ من معدنٍ آخر؛ قوّةُ من يعرف أنّ عليه أن ينجو لا لأنّه الأقوى، بل لأنّ خلفه من هم أضعف. كانت تتعلّم بسرعة: كيف تُسكت رعبها كي لا يفزع الصغيرتان، كيف تقسم لقمتها إلى ثلاثٍ متساوياتٍ ولو جاعت، وكيف تجعل من الصمت معبراً حين يصير الكلام فخّاً.
مرّت السيارة بمحاذاة أولى نقاط التفتيش خارج العاصمة. هدأت السرعة، ولاذت الأصواتُ بحذرٍ جليّ. كان قلبها يطرق كما لو أنّه يوشك أن يُسمَع. تشبّثت بثوب الصامت، ودفنت وجهي الطفلتين في حضنها كي لا تُغريهما همسات الأسئلة. سمعت تحيةً غليظة، ثمّ تبادلَ هويةٍ ونظرةٍ وخشخشة أوراق نقدية. انطلقت السيارة بعد دقائق، دقائق لم تقيسها عقاربُ ساعةٍ بل ساقيةُ عرقٍ سالت من صدغها إلى فكّها دون أن تجرؤ على مسحها.
في فسحةٍ قصيرةٍ من الطريق، مالت عفراء برأسها نحو النافذة الصغيرة فوقها تُصغي إلى السماء. كان المساء يضع أولى خرزاته على عنق الأفق. فكّرت: “المجهول ليس أرحم من الماضي، لكنّه على الأقل مساحةٌ يمكن أن يُكتب فيها نصّ جديد”. تذكّرت أحلامها اليتيمة التي تُركت عند بوابات المدرسة: أن تدرس، أن تصير ممرّضةً تمسك يدَ مريضٍ بلا خوف، أن تعمل مربّيةً تعلم الأطفال أن العالم أوسع من حدود الطائفة وأدفأ من جدار العشيرة. تلك الأحلام لم تعد قصاصاتٍ في دفتر؛ صارت أسباباً للنجاة.
كتبت لأهلها مجدّداً: “إذا وصلنا إلى الحدود سأخبركم… لا تُقلقوا، واستمروا بالدعاء، فالدعاء حبلٌ وأنا أتسلّق”. شعرت بأنّ عمّان لم تعد اسماً بعيداً على لافتة، بل حضناً يتشكّل في الخيال.
ليس أمامها وأمام طفلتيها إلا خياران: الموتُ في ماضيها الذي يعرف سبلَها كلُّ متربّصٍ، أو الهربُ إلى المجهول حيث يمكن للأقدار أن تُعيد ترتيب الأوراق. اختارت المجهول، لا لأنّها تُحبّ المغامرة، بل لأنّ الحياة أحياناً تُختصر في منعطفٍ واحدٍ: أن تمنح أبناءك غداً أفضل أو تسلّمهم لذئاب الأمس. في هذا الاختيار، قد تبدو عفراء ضعيفةً في عيون القانون العاثِر، لكنّها في ميزان المعنى أقوى ممّن صاغوا لها السلاسل.
واصلت السيارة ابتلاع الطريق، وحين غلب النورُ غبشَ العتمة، أحسّت أنّ قلبها بدأ ينسجم مع إيقاعٍ جديدٍ للكون. همست لنفسها وهي تطبّق جفنيها: “لن أعود إلى القيد، ولو كان الطريق إلى الحرّيّة مفروشاً بالخوف. سأحمل المجهول كصحيفةٍ بيضاء، وأكتب عليه أسماءنا بثبات”. ثمّ شبكت أصابعها بأصابع طفلتيها، كأنّها توقّع مع الغد معاهدةً لا تملك سواها: أن تبقى على قيد الأمل، مهما تكسّر في الطريق من جسور.
(يتبع)
الفصل الثاني: خيط في العتمة