الثقافة اليابانية

الثقافة اليابانية

د. عوض الغباري

تشرفت وسعدت بالعمل أستاذا زائرا لجامعة أوساكا اليابانية، وهى من أكثر الجامعات اهتماما بالدراسات العربية. رأيت فى ثقافة اليابان تحضرا وحبا للإنتاج واهتماما بالعلم والفكر والفن والثقافة، وحرصا على التقاليد اليابانية مع التقدم العصرى الحديث.

لم أجد بين اليابانيين إلا احترام الأجانب الذين يسرى عليهم من الحقوق والواجبات ما ينطبق على اليابانيين دون تفرقة. وهم مولعون بآثار مصر الفرعونية، ويحرصون على زيارتها. واليابانيون محبون للطبيعة وللحياة وللقراءة وللفنون، ولهم ذوقهم الرفيع فى تلك الدروب.

كما يتميزون بالأدب الجم، والعناية بالتربية والتعليم، وإكبار القيم الإنسانية، خاصة رعاية الطفل وكبار السن.

وتفسح الحكومة اليابانية المجال لتمويل الأبحاث العلمية، وإمداد الجامعات بالمراجع والأجهزة حرصا على التميز والابتكار.

يتمثل هذا وغيره فى كتاب مهم عنوانه: التاريخ الثقافى لليابان؛ نظرة شاملة، تأليف “يوتاكاتا زاوا” و”سابورو ماتسوبارا” و”شونسوكى أوكودا” و”ياسونورى ناجاهاتا” في طبعة ثانية عام 1993.

وتؤكد مقدمة الكتاب أن اليابان – خلال تاريخها الطويل- أخرجت ثقافة قومية رائعة، لها طابعها الفريد بين تراث الشرق الثقافى.

ويتميز الكتاب بشموله في تقديم الثقافة اليابانية مدعومة بصور رائعة فى لوحات معبرة عن مختلف جوانب هذه الثقافة.

وتتطور الحياة اليابانية وتتفاعل مع الثقافات الأخرى مع التمسك بشخصيتها وتفردها، خاصة في الإحساس الجمالى متمثلا فى الفن التشكيلى الضارب بجذوره فى التاريخ اليابانى القديم.

وأثرت الثقافة البوذية، وعصرها الذهبى للفن فى الفنون اليابانية قديما، خاصة صناعة الأوانى الفخارية، وأنواعها وتصميماتها البديعة.

وقد تأثرت الثقافة اليابانية القديمة بالثقافة الصينية، ولكن الثقافة الصينية تحولت لصالح ثقافة يابانية جديدة متميزة على حد ما ورد فى كتاب “التاريخ الثقافى لليابان”.

يعرض الكتاب للحياة والثقافة فى العصر القديم قائمة على الصيد والزراعة، وكان للعقيدة الدينية مذاهب روحانية لعبادة الطبيعة التى كان اليابانيون فى صراع معها وخوف منها. والثقافة البوذية اليوم تربط المعابد البوذية بالطقوس الجنائزية والتذكارية، وفنونها لمست “وترا حساسا عميقا فى الوعي الجمالى اليابانى”. كما كانت عمارة المعبد البوذى مركزا ثقافيا جديدا، في فن العمارة اليابانى.

وإذا كان الفن اليابانى قد تأثر بالنماذج الصينية والكورية فإنه كان معبرا عن الروح اليابانية. كما كان دليلا على التفاعل بين الثقافة اليابانية والثقافات الأجنبية “مما يشكل النوعية الفريدة للفن اليابانى”.

وانعكس ذلك على الشعر والجوانب الثقافية الأخرى إذ تعايشت الشخصية اليابانية مع الثقافات الأخرى دون أن تفقد هويتها.

ودلت القصائد الشعرية اليابانية على “النفسية السليمة، والحيوية المتينة للشعب اليابانى”.

وقد تجلى حب اليابانيين للجمال فى المعابد والتماثيل والأعمال الفنية المختلفة معبرة عن الإحساس اليابانى الفريد بالانسجام “من خلال نوعيتها الصافية والروحية للغاية”.

ويتوالى التحول الثقافى عبر عصور التاريخ اليابانى، خاصة فى إضفاء طابع يابانى، على الثقافة الصينية، وتأسيس المكونات اليابانية للحياة الثقافية فى شكل يابانى متميز، ونشوء ثقافة وطنية.

وأثرت البوذية، فى بعد من أبعادها، فى وجود طابع صوفى، و”قوة روحية كامنة نابضة”. وبدأ ازدهار الثقافة الوطنية اليابانية فى القرن العاشر.

وكان لأثرياء البلاط امتيازات جعلتهم يهتمون بالفنون والشعر وجمال الطبيعة والذوق الفنى الرفيع. كذلك تجلى فن الرسم بالأسلوب اليابانى الذى يصور “عالما يابانيا فريدا من الجمال”.

وكان للأدب دوره فى تطور الثقافة الوطنية اليابانية وظهر ذلك، أيضا، فى الأساليب المعمارية. وقد قرر الكتاب أن طابع الحياة فى بداية تاريخ اليابان كان بدائيا، وأن ملاك الأراضى الأثرياء قد سيطروا على عامة اليابانيين.

كما انقسمت البوذية، فى مراحلها المختلفة، إلى اتجاه يقر بالغرائز الجسدية وآخر يعلى من المشاعر الروحية.

وفى العصور الوسطى استمدت طبقة المُلاَّك الارستقراطيين الحاكمة قوتها بالقرب من الإمبراطور مما أدَّى إلى قيام طبقة من المحاربين لدعم القواعد الاقتصادية قائمة على نظام الإقطاع.

وقد عبَّر قيام طبقة المحاربين عن روح جديدة من البساطة والقوة.

كذلك تجلى أثر ذلك فى واقعية الفن وشعبيته مناقضا للأثر الأرستقراطى.

وقد تجلت السمات الشعبية فى الرسم متخذة شكل الأسلوب القصصى، والاهتمام برسم الوجوه، كما ازداد وعى الناس بأنفسهم، متمثلا فى رسم الصور الشخصية.

وقد أنتج “الدين والحرب موضوعات مألوفة لهذا الشكل من الفن”.

وكان اليابانيون منذ العصور القديمة “يفضلون الحدائق التى يصنعها الإنسان لتحاكى الطبيعة”.

ويعرض كتاب: “التاريخ الثقافى لليابان” ظواهر الفن والإنسانية اليابانية قبل العصر الحديث. وكان عصر استقرار سياسى ونمو صناعى وتنمية اقتصادية.

وقد ظهرت فيه قوى جديدة “أنتجت ظاهرة ثقافية حقيقية إيجابية وحديثة”.

وكذلك “زادت الاتصالات مع الغرب” وحدثت تغييرات فى حياة الشعب.

وشاع تشييد القلاع، وكانت القلعة “مرفقا عسكريا طبيعيا”. كذلك كان بناء الأبراج المحصنة رمزا للقوة وعظمة الإبداع المعمارى اليابانى. واشتهرت الهندسة المعمارية ونحت التماثيل والفنون الصناعية، وتصوير الفنون التشكيلية لزهور وطيور بديعة فى زخرفتها. وانعكست الثقافة اليابانية فى مراسم الشاى وتنسيق الزهور.

ويمكن القول بأن “روح مراسم الشاى” هى الراحة من ضغوط العمل، وأن غرفة الشاى هى “المكان الذى يسوده السلام والثقة والصداقة”. أما فن تنسيق الزهور فى اليابان فله تقاليد من أهمها تزيين غرفة الشاى تعبيرا عن النقاء والبساطة وتأمل أعماق الطبيعة.

ولقد ” قدم عالم الطبيعة فى اليابان دائما زهورا جميلة فى كل الفصول، وزيَّن جمالها الحياة اليومية البسيطة للشعب من كل الأعمار”.

وظهرت لوحات لرسم الحياة اليومية فتحت ميدانا جديدا فى الفن اليابانى.

وفى الكتاب فصل عن ارتقاء المدن وثقافتها. كذلك فن “الكابوكى” الذى تطور فى شكل مسرحيات درامية تتناول التاريخ والأساطير والحياة المعاصرة.

وقد ازدهر الإعجاب بالفن بين الجمهور فى اليابان، وكان معه نمو للثقافة الوجدانية والشعبية، ونهوض بالفنون الكلاسيكية والزخرفية التقليدية، خاصة صناعة الخزف الفخارية الملونة.

وتميزت رسوم المناظر الطبيعية بالابتكار. وفى العصر الحديث جرت إصلاحات التحديث باليابان متمثلة فى إصلاح “ميجى” عام 1868م بعد انهيار المجتمع الإقطاعى.

وشقت اليابان طريقها فى دولة عصرية تستوعب الثقافات الحديثة لأوربا وأمريكا التى استمرت فى التدفق إلى اليابان، لكن فى منظومة تؤكد أصالة الثقافة اليابانية والقدرة على التكيف والتعدد.

إن الحياة اليابانية وثقافتها صورة للجدية والنظام وحب العمل والإنجاز ومواجهة قسوة الطبيعة بفلسفة تؤكد حرص اليابانيين على العزم والتحدى والقوة مع حب الفن والثقافة والجمال.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.