اللوحة: الفنانة الكويتية سوزان بشناق
سعاد الراعي

الفصل الرابع من رواية «خلعُ خاتم الطائفية»
واصلت السيارة ابتلاع الطريق، وحين غلب النورُ غبشَ العتمة، أحسّت أنّ قلبها بدأ ينسجم مع إيقاعٍ جديدٍ للكون. همست لنفسها وهي تطبّق جفنيها: “لن أعود إلى القيد، ولو كان الطريق إلى الحرّيّة مفروشاً بالخوف. سأحمل المجهول كصحيفةٍ بيضاء، وأكتب عليه أسماءنا بثبات”. ثمّ شبكت أصابعها بأصابع طفلتيها، كأنّها توقّع مع الغد معاهدةً لا تملك سواها: أن تبقى على قيد الأمل، مهما تكسّر في الطريق من جسور.
سألت عفراء، وصوتها يزاحم رجفةَ العجلات:
ــ “أين نحن؟”
أجاب السائق وهو يثبت عينيه على الطريق:
ــ “باتجاه الشمال… إلى السليمانية. سنرتاح هناك، ثم نُكمل غداً، على الأغلب، نحو تركيا”.
شهقت، كأنّ الهواء انكسر في صدرها:
ــ “تركيا؟”
قال ببرودٍ ناعم:
ــ “ومن تركيا ستتدبّرين أمركِ إلى أوروبا… هكذا كان الاتفاق”.
همستُها خرجت كاستغاثة:
ــ ” لكنّي أريد الذهاب حيث أهلي… إلى عمّان”.
التفت قليلاً، ضاق صوته:
ــ “ولماذا لم تُخبِريني من قبل”
ــ “أنا آسفة… لم أعلم إلّا قبل قليل أن أهلي في الأردن”.
هزّ كتفيه كمن يزيح عن نفسه عبئاً:
ــ “هذا صعب عليّ… عندي مشاغل والتزامات”.
توقّفت السيارة عند باحةٍ إسمنتيةٍ واسعة تحدّها حيطانٌ عالية، كراج نصف مظلم، تتدلّى على مدخله مصابيح نيون ترتعش كنبضٍ مُجهَد. أطفأ المحرّك، نزل، وقال وهو يغلق الباب:
ــ “لقد وصلنا. الليل طويل، ولا أقود في الظلام. والسيارة تحتاج وقوداً. سنرتاح حتى الفجر”.
همّت بالنزول وراءه، وابنتاها لا تزالان في غفوةٍ معلّقة بين تعبٍ وخوف، فتعلّقت بصوت رجاءٍ يُبلّل الحصى:
ــ “أرجوك… أنا وحيدة. ليس لي ولأطفالي في هذه العتمة غير ضميرك ورحمتك”.
رفع حاجبيه، ثم تمتم:
ــ “أديتُ ما عليّ… سنرى غداً. ربما أجد من يوصلكِ إلى حدود الأردن. الآن أريد النوم… هل تريدين المجيء معي؟
اسوَدّت الدنيا في عينيها. فهمت الإشارة التي لا تُقال. غصّت الدموع في حلقها ثم قالت بثباتٍ هشّ:
ــ “لا… سأبقى مع طفلتيّ في السيارة. رجاءً… فكّر في هؤلاء الصغار… إن كان لك أولاد”.
تنهّد السائق بمللٍ، ومال برأسه:
ــ “سأحاول غداً”.
ثمّ استدركت بهمسٍ متخاذل:
ــ “إذا أمكن… اشترِ لهم شيئاً من الطعام والماء”.
لم يُجِب. أغلق الأبواب بإحكام، وابتلعته العتمة مع وقع خطواتٍ تتباعد.
عاد الصمتُ يزحف بثقلِ زيتٍ مسكوب. خلفيّة السيارة، تلك الحُجرة المعدنية التي ظنّتها «كهف سفينة نوح» ساعة هروبها، بدت الآن كقبوٍ يتهامس فيه الظلام. بطانياتٌ قذرة تفوح منها رائحةُ العتق والرطوبة، صناديقُ مغلقة مرصوصة كجدرانٍ صمّاء، نافذة سقفٍ صغيرة لا تُري إلا خيطاً شاحباً من الضوء.
في الخارج، نباحُ كلابٍ ضالة، صفيرُ ريحٍ يجرّ غبار الساحة، وضحكاتٌ متقطّعة لرجلين مرّا ثم ابتعدا. مدينةٌ غريبة، طالما سمعَت أنّها تشتهر بسماسرةِ الدعارة والاتجار بالبشر وبالأعضاء؛ اسمها وحده صار فزّاعةً بالنسبة لها. تساءلت وهي ترتجف: “هل يمكن أن يبيعني السائق؟ هل أنا سلعة على قائمة الأسعار؟”
جلست تُحاذي الباب من الداخل، تسند ظهرها إلى لوح الصفيح، وتضمّ ابنتيها إلى صدرها كمن يحرس نبضه بمفتاح. كانت طفلتها الكبرى تهمهم بنومٍ مضطرب، فمرّرت كفّها على جبينها وتنفّست بعمقٍ كي تُسكت رعشة القلب. في تلك اللحظة انفتح في رأسها ميزانٌ لا يعرف الإنصاف: خياران لا ثالث لهما؛ موتٌ معلومٌ في حضن الطائفة وقوانينها التي تخلط الشرف بالدم، أو هروبٌ إلى مجهولٍ قد يبتلعها ويعيدها أشلاءً في خبرٍ صغير. اختارت المجهول. ليس لأنّ فيه بطولةً، بل لأنّ فيه احتمالَ نجاةٍ لطفلتين لا تفهمان من العالم سوى رائحة أمّهما.
راحت تُجرد ما تملك: حقيبةٌ صغيرة في الزاوية، فيها نسخٌ لشهادات الميلاد وجواز سفر مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، بعض النقود في جيبٍ خفيّ، شريحة هاتفٍ احتياطية، قطعةُ خبزٍ يابسة، زجاجة ماءٍ نصف ممتلئة، ومشبكُ شعرٍ معدنيّ. «هذه ليست مقتنيات،» قالت لنفسها، «هذه أدواتُ حياة.» سحبت هاتفها. البطارية تُعلن تمردها على الصبر. فتحت الرسائل: حروفٌ من أهلها في عمّان، محمّلة بحرارةٍ لم تكن تملك وقتاً لذرفها حين وصلتها. كتبت بسرعةٍ متمايلة على إيقاع الرجفة: “أنا في كراجٍ على أطراف السليمانية… لا أعرف المكان تماماً. الرجل يقول نتحرّك فجراً. أحتاج طريقاً إلى الأردن. لا تُجيبوا كثيراً… سأبعثُ الموقع إذا استطعت”
وبينما أصابعها تتلمّس الأزرار، لاح وجهٌ عزيز يطفو في خاطرها: “أم أحمد”. ذلك الصوت الذي شقّ صمتاً ثقيلاً في ليلةٍ سابقة وقال: “لن أترككِ وحدكِ”. فتحت محادثاتها، كتبت:
“أنا هنا… المدينة التي حذّرتِني منها. اشك ان الرجل يساوم ظلي. إن عرفتِ أحداً أميناً يوصلني إلى حدود الأردن حيث اهلي، فافعلي… الليلة طويلة، وأنا لستُ إلّا أمّاً تخشى على طفلتيها”. أرسلت الرسالة، ثم نزعت الشريحة وأخفتها في بطانة الحقيبة. “إن عاد السائق وفي عينيه سؤالٌ لا أستطيع دفعه،” همست، “فلن يجد لديّ وسيلةً للابتزاز”
الوقتُ يمشي ببطءِ قطرةٍ على جدار. تعلّم الهاربون، في مدارس الظلام، أنّ الساعة لا تُقاس بالدقائق بل بتناوب الأصوات: سيارةٌ دخلت ثم خرجت، بوّابةٌ صريرُها يتلو ركودها، أقدامٌ مرت من جوار الباب ثم ضاعت. في الداخل، كان البردُ يتسلّل مثل قطّةٍ لا تُصدر صوتاً. خلعت معطفها وغطّت الصغيرتين، ثم ضمّت كتفيها تحت حجابها كي تحفظ حرارةً تكفي لفجرٍ بعيد. تذكّرت بيتها الأوّل، وجدارَ الطفولة حين كان اللعبُ مباحاً قبل أن يتكلّس. تذكّرت صوت أمّها يناديها من شرفةٍ تشبه صدر الوطن قبل أن يحتله القتلة. ثم عادت إلى حيث هي الان… إلى هذه العلبة المعدنية التي تكوّر فيها الزمن، وإلى قلبٍ يحفر بأظافره نافذةً نحو الصبر.
في غمرة الصمت، انفتح بابُ الذاكرة على وجه الزوج وأهله، وهم يسوقون اسمَ الشرف كالمطرقة: «الشرفُ لا يُفاصل، والدمُ يُغسل بالدم.» كانت ترتعش من تذكّر تلك الجلسات التي تُدار فيها حياتها كصفقةٍ فوق طاولةٍ ملوّثة بالحجج؛ يدٌ تمسك دفترَ العشيرة، وأخرى تلوّح بآياتٍ تُنتزع من سياقها، وفمٌ يقرع على طبلةِ الفتاوى القديمة. كلّ ذلك صار وراءها الآن، لكنّ صوتَ المطاردين لا يزال يركض في أذنيها. وضعت يدها على فمها كي لا تسمع بكاءها. الأمهات حين يبكين وحيداتٍ، يخجلن من دموعهنّ أمام أطفالهنّ، فيحوّلنها إلى حكايات.
همست للصغيرتين بحكايةٍ مبتكَرة كي تناما: “هناك طائرٌ صغير، كان له بيتٌ في شجرةٍ عالية. جاء ريحٌ شرّير، كسّر الأغصان. فطار الطائرُ ومعه فرخان… ظلّ يطير حتى وجد شجرةً أخرى. الطائر لا يخاف حين يحمل صغاره… الصغار هم جناحاه”. وهي تحكي، كانت تُقنع نفسها معهما بأنّ لها جناحين.
كلّما ارتعشت، ضغطت على كفّها مشبكَ الشعر المعدنيّ. تذكّرت أنّه يفتح قُفلاً صغيراً إن احتاجت ويمكنها استخدامه كأداة للدفاع. التفاصيل الصغيرة لا تصنع البطولة، لكنها تمنع الهزيمةَ من أن تكتمل.
مرّت ساعةٌ أو أكثر، لا فرق. طرقاتٌ خفيفةٌ على المعدن أفزعتها. انتصبت كمن يتهيّأ للذبح. ثمّ هدأت الطرقات وتلاشت. وضعت أذنها على الجدار، سمعت حفيفَ أكياس، وحواراً مقطّعاً بلهجةٍ غير مألوفة. “يا ربّ…” قالت وهي تشدّ الطفلتين إلى صدرها. كتبت رسالةً مقتضبة لأهلها: “إن لم أكتب عند الفجر… اتصلي بأم أحمد. قولي لها: “الميزان، ستفهم.” كانت كلمة السرّ التي اتفقت عليها مع الجارة قبل أن تغادر بغداد؛ تفصيلٌ مشفّرٌ لم تنتبه من قبل إلى أهميّة وجوده.
في غفلةٍ من الخوف، غفَتْ دقائق. حين فتحت عينيها كان الضوء يزحف من نافذة السقف كخيطِ لبنٍ على وجه الليل. بردُ الفجر له طعمُ ماءٍ قديم، يعضّ العظامَ ببطء. عادت لتفقد الهاتف. رسالةٌ من أم أحمد: “اعطي السائقَ هذا الرقم، سيهاتفه رجلٌ في محطةٍ قريبة. لا تخرجي معه وحدكِ. ابقي حيث أنتِ حتى اكتب لكِ. الأردن أولى من أوروبا… والأمانُ أوّل الطريق.” ابتسمت ابتسامةً صغيرة لا يشبهها سوى دعاءٍ تحقق. كتبت: “حسنٌ. أنا أنتظر”.
وقبل أن تُعيد الهاتف إلى الحقيبة، أبلغت أهلها: “ثمة بصيص. ابقوا على الدعاء.” ثمّ أسندت جبينها إلى الجدار تستجلب ما تبقى من سكينة. الخوف لم يخرج من السيارة، لكنه تراجع خطوةً إلى الخلف، كذئبٍ يعرف أن في اليد حجراً. نظرت إلى ابنتيها، ورأت في وجهيهما سبباً يتقدّم على كلّ التبريرات: الحرّيّة ليست شعاراً في لافتةٍ سياسية، الحرّيّة هذا الصباحُ الذي يمكن أن يُفتح بلا خوف، وهذا الحليبُ الذي يُشرب بلا كراهة، وهذه المدرسةُ التي تدخلها البنات بلا وصمةٍ معلّقة على جباههنّ.
حين ارتجّ القفلُ أخيراً، انقبض قلب عفراء كما لو كان يتهيّأ لاستقبال قدرٍ جديد. شدّت على معطفها، تتوسّل منه دفئاً واطمئناناً، واستعدّت لكلّ الاحتمالات التي قد تخبّئها خشبةُ الباب الحديدي. وحين انفتح، ظهر السائق أمامها، ملامحه مرهقة، لكن عينيه تخلو من الندم، كأنما اعتاد أن يرى الخوف في وجوه الآخرين فلا يحرّك فيه شيئاً. رمقها نظرةً سريعة، ثم قال بخشونةٍ تخالطها نبرةٌ عملية باردة:
ـ “هيا… سنملأ الوقود. بعد ذلك… سنواصل إلى الأردن، ولكن ستدفعين ثلاثة أضعاف المبلغ.”
سقطت الكلمات على صدرها كصخرةٍ هوت من جبل، لكنها تماسكت، كأنها تعلّمت أن الحياة في المنفى تبدأ من لحظةٍ كهذه: لحظة ابتزازٍ لا مهرب منه. ردّت بصوتٍ هادئٍ خالٍ من الجدال، فيه من الشكر ما يشبه الخوف:
ـ “كما تريد… فقط خذنا إلى هناك.”
لم تعد تثق به، ولا بغيره من الرجال الذين يبدّلون وجوههم بين قناعٍ وقناع، لكنها بدأت تثق بأسبابها الخاصة: رقم هاتفٍ تحفظه في ذاكرتها كآية نجاة، صورة لطريقٍ مرسومة في ذهنها تتجه غرباً، وقلبٍ يتعلّم أن القوة ليست صرخة، بل أن تمضي خطوةً أخرى رغم الارتجاف.
في اللحظة نفسها، وصلتها رسالة قصيرة على هاتفها المخبّأ بين يديها المرتجفتين: “ستصلين بالسلامة. اكتبي لي حال وصولك.” كان التوقيع باسم “أم أحمد”، جارتها الطيبة، المرأة التي كانت تطرق بابها أيام المحن بقدرٍ من الحنان يضاهي الأمومة. أدركت عفراء أن هذه الروح النقية لا تزال تحرسها من بعيد، وأنها على الأرجح هي من تواصلت مع السائق ليعيد النظر في وجهته. دمعت عيناها، لكنّها أخفت الهاتف في صدرها، كما لو كان تعويذة نجاة لا تريد للقدر أن ينتزعها منها.
تنفّست بعمق، حاولت أن تزرع في رئتيها شيئاً من الشجاعة كي لا تنهار أمام طفلتيها. فتحت باب السيارة، خرجت للحظةٍ قصيرة، أصلحت وضع البطانية فوق جسديهما الصغيرين، ثم أعادت أطرافها بعنايةٍ أمّ تعاند القسوة. نظرت إليهما، تغطيان وجهيهما ببراءةٍ حالمة، وتساءلت في سرّها: كيف لطفلتين صغيرتين أن تدفعا ثمن خطايا وطنٍ يطارد أمهما كأنها مجرمة؟
كانت الشوارع خارج الكراج مظلمة، يتسلل إليها ضوءٌ باهت من مصابيح متعبة، والهواء يختلط فيه برد الليل برائحة الزيت المحترق. بدت المدينة غريبة، كأنها فمٌ مفتوح يتهيأ لابتلاعها. وكل خطوة كانت تحسّها كسيرٍ فوق جمر المجهول، لكنها مضت، بحذر، تتشبّث بالحلم البعيد: أن تصل، فقط أن تصل، ثم تفكّر بعدها كيف ستبني حياة جديدة من رماد قديم.
وفي أعماقها، كانت تعلم أنها لم تهرب وحدها من سطوة الطائفية، بل هربت من تاريخٍ أراد أن يجعل منها ظلاً لا يملك جسداً. كل خطوة على هذا الطريق كانت إعلاناً صغيراً ضدّ القيد، وصلاةً خفيّة بأن تكون حريتها ثمناً يليق بتضحياتها.
هكذا، في تلك اللحظة التي بدت صغيرة في ظاهرها، كانت عفراء تعبر من كونها ضحية مطاردة إلى امرأة تصنع قدرها بقدميها المرتجفتين، تكتب قصتها بالحذر والخوف، ولكن أيضاً ببصيصٍ لا ينطفئ من الرجاء.
كان الفجر قد استوى، والكراجُ يكشف ملامحه… بقعُ زيتٍ كخرائط سوداء، قطّتان تتشمّسان بحذر، عاملٌ يتثاءب، ومئذنةٌ بعيدةٌ تُخرج من حنجرتها الأذان الأوّل. ابتسمت. قالت في سرّها: «كان الموتُ يعرف عنواني في الأمس، أمّا المجهول… فليس له عنوان. هذا حسن.» ثمّ أعادت ابنتيها إلى الصندوق، جلست بينهما، وكتبت في قلبها معاهدةً جديدة: “لن أبيع نفسي ولا بناتي للخوف، ولن أسمح لاسم الطائفة أن يكون صكَّ ملكيةٍ لأجسادنا. إن كان المجهولُ هو الثمن… فليكن. لكنّي سأدفعه وأنا ممسكةٌ بأيديهما، لا مُساقَةٌ وحدي كنعجةٍ إلى الذبح”.
الفصل الثالث: فُلك النجاةِ إلى المجهول