حليب الغيل يَهدُّ الحيل

حليب الغيل يَهدُّ الحيل

اللوحة: الفنانة الأميركية كارين نوربيرغ

شهربان معدّي

قصّة من ريف الجليل

شعرت ريمة باضطراب صحة رضيعها، ولاحظت شحوب وجّهه، وعدم رغبته بالنوم والرضاعة، رغم أنها سقته مَغلي اليانسون، وقاست له درجات الحرارة، ولكن ثمة شيّئًَا لم يجدِ نفعًا، حينئذ قرّرت الأم الغضّة، أن تتوجّه لجدتها المُسنة، كي تُسمّي له، فهو وليدها البكر الذي تخاف عليه حتّى من نسمة الهواء، وكلام الخير أفضل دواء للطفل الذي يتمقّت دون سبب، كما أخبرتها أمها خلال مُحادثة قصيرة في الجّوال:

– ربما الصّغير معيونًا يا ابنتي، كيف لا يتمقّت، بعد أن وَضَعّتِ صورته على الستاتوس في الواتس؟ وأردفت قائلة بثقة: “العين تأخذ حقّها من الحجر”

وبعد أن تعبت ريمة من التّجوال بالصّغير في كلّ أنحاء البيت، لم تجد أمامها سوى حلّ واحدٍ، وهو الذهاب لجدّتها كما طلبت منها والدتها. استقبلتها جدّتها بحفاوة، تناولت الرّضيع منها، تشْبعه تقبيلاً وضمَّا؛ وبدأت بالبسملة منذ اللحظة الأولى التي احتضنته بين راحتيّها، وبترديد آيات مُقدّسة، تسبّح فيها الخالق، وتحمده على هذه الهديّة الثّمينة، ثم طلبت من الوالدة الغضّة أن تناولها قنينة زيت الزيتون المُباركة من النملية المركونة في إحدى زوايا المطبخ، والتي تفوح منها رائحة الفيجن والقرنفل، والتوابل الثّمينة، وبدأت بتُمليس الصغير، بالزيت الدافئ، بنعومة وحذر وهي تُسبّح وتذكر الله، وتردّد:

“هُفّ.. يا شلش يلّلي التوا من لفحة ريح أو نسمة هوا.. هُفّ يا باسط الأرض ورافع السّما تردّ الشلش مطرح ما التوى.. بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، أنا الراقي، والله الكافي أنا الراقي والله الشّافي، يحميك ويشفيك من كلّ عين شافتك، وطّلعت فيك، من عين الجارة أحدّ من النّارة ومن عين الضّيف، أحدّ من السّيف، ومن عين ما تعرف نبيّ الله، أنا الراقي والله الشّافي، أنا الراقي والله الشّافي، أنا برقيك والرّبّ يشفيك” وبدأت تمسد رأس الصغير، وتنفخ بكلّ قوتها، لكي تخرِج العين من جسده المحموم، وكانت دموعها تنساب على وجنتها المتغضنة كالشلال.. والطفل يتلوى بين ذراعيها ويبكي وهي تقلّبه بخفّه وتملّسه، واسّتمرت قائلةً:

“ابردي يا عين كما بردت الماء في الغدير، وذوبي كما ذاب الثّلج على الحصير، رقيتك من عين زرقا ومن سن فرقا، ومن عين البعاد ومن عين القراب، بسم الذي بإسمه شفا وبسم الذي بإسمه كفا، بسم الذي بإسمه باسط الأرض ورافع السّما، لا الله إلاّ هو ولا معبود سواه..”

ولم تنه جملتها حتى كان الرضيع يغط في نوم عميق.. لفّته برشاقة بدمْجته القطنية البيضاء، وناولته لحفيدتها ريمة التي كانت تُحاول إخفاء دموعها السّخيّة التي تترجم أمومة العالم بأسرها.. وقالت لها بنبرة مُغلفة بالحياء والجّدية في آن واحد..

– ديري بالك يا ستّي “حليب الغيل بيهدّ الحيل”

لم تفهم الأم الغضّة، ما قصدت جدّتها بالضبط، وكان يجب أن تسأل والدتها، فهي تريد أفضل شيء في العالم لرضيعها الغالي، ولا تريد أي خلل أو خطأ، يهدّ حيله، أو يُفسد صحته، كما نصحتها جدّتها..

وكان جواب الوالدة قاطعًا وسريعًا ومُقنعًا:

– قصدت جدّتك أنه لا يتوجب أن تُغامري بحمل جديد وأنت ترضعين صغيرك؟ ذلك.. سيُفسِد الحليب الذي هو مصفاة جسدك يا ابنتي..

ريمة فهمت الإشارة وقرّرت أن تنتبه لهذه النّصيحة الذهبيّة، التي نصحتها بها جدّتها التي ولدت في زمن مضى.. في ترم التين كما أخبرتها.. ولكن هذه النصيحة بالنسبة لها؟ كانت تُضاهي كنوز سُليمان..

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.