اللوحة: الفنان السوري عادل داود كردي
في مجموعة قصصية لإبراهيم صموئيل بعنوان «النحنحات»، أعجبتني قصة قصيرة بعنوان «الناس الناس»، تحكي عن سائق حافلة متهور يُعَرِّض بسرعته وحركاته البهلوانية حياة الركاب للخطر، وكل راكب متشبث بمقعده وقلوبهم تنبض سريعًا ويتمتمون بدعاء النجاة. ومع ذلك، لم يتجرأ أو يتطوع أحد بتنبيه السائق إلى خطورة السرعة وضرورة أن يهدأ قليلًا.
ثم حدثت المعجزة وتشجع أحدهم بالاعتراض، فأوقف السائق الحافلة وأصر على هبوط هذا المعترض حتى يكمل الرحلة. ولم ينضم أحد لهذا الراكب، بل تساند الجميع في لومه واسترضاء السائق كي يواصل السير حتى يصلوا إلى وجهتهم دون تأخر عن مواعيد العمل. وتصاعدت حدة الركاب في لوم الراكب المعترض، حتى تجرأ أحدهم فدفعه خارج الحافلة، وكانت لهذه المبادرة استجابة جماعية من الركاب فمدوا أيديهم ليساعدوه على طرد الراكب إلى الخارج.
وهبط الراكب مُرغَمًا ثم نظر إلى الحافلة تبتعد عنه مسرعة وهو مهزوم، وعاد الركاب للتشبث بالمقاعد ورجفان القلوب والتمتمة بالدعاء، بينما السائق يواصل استعراضه البهلواني.
ماذا يدور في خاطر الركاب أثناء هذا الحادث؟
الخشية من أن يتطور العراك وينتهي بالركاب جميعًا في قسم الشرطة، وفي هذا تضيع أوقاتهم ويتأخرون عن مواعيد العمل.
احتمال أن يهبط الراكب من الحافلة ليستقل أخرى، لكن هذا يضيع مزيدًا من الوقت ويجعله يدفع ثمن التذكرة مرة ثانية.
الرجل مسرع ومغامر، وربما نصل بالسلامة مبكرًا، وهذا سيكون جيدًا، غير أن أحدًا منهم لا يطيل التفكير في الخطر القريب المتمثل في اصطدام الحافلة أو انحرافها بهم وما يحمله ذلك من احتمالات دامية.
لقد حنق الركاب على الراكب الإيجابي وصاحب رد الفعل الصحيح، وكانوا مُثَبِّطين له واستخدموا القوة في طرده. وبهذا كانوا في صف الظالم والمعتدي عليهم. ولو كانوا شعبًا آخر، لكانوا جميعًا مثل هذا المبادر بالاعتراض، ولساندوه في موقفه، ولو لم يرتدع السائق لأصروا على معاقبته مهما كلفهم ذلك من خسارة وقت.
لأنهم بهذه الإيجابية سوف يُظهرون قوة المجتمع في رفض الانحراف والتجاوز، ويرتدع الذين يستهترون بالناس. لكن الشائع في المجتمعات الجاهلة التنازل عن الحقوق والتغاضي عن الإهانة فيتجرأ المعتدي والظالم.
خلاصة القصة أن الركاب غامروا بحياتهم ولم يغامروا بالتصدي للسائق، وبخلوا بوقتهم في تأديبه ومعاقبته.
ماذا لو:
انضم الركاب إلى الشخص الذي اعترض، وهددوا السائق بأنهم سوف يصعّدون الأمر إن لم يقُد بسلام؟ في هذه الحالة، لا بد أن يلين السائق ويستجيب لهم ولا يكررها أبدًا. ولو لم يستجب، قد يتطور الأمر إلى استدعاء الشرطة والذهاب إلى القسم لعمل محضر، وبهذه الطريقة سوف يخسر كل شخص جزءًا من وقته، لكن سيُؤدَّب السائق وتُعطى مثالًا على إيجابية وحيوية المجتمع والناس.
وحين يتداول الناس هذه القصة، لن يجرؤ أي سائق على تكرار هذا الفعل، وسيصبح للمواطن احترامه.
وماذا لو انتشر هذا السيناريو في كل المواقف التي يتنمر فيها الفاسد على المجتمع، مهما كان موقعه، واشترك الجمهور في ردعه وتوبيخه والتصدي له! هذا العمل البسيط والمتكرر سوف يكنس الفساد من المجتمع سريعًا وبأقل جهد، وسوف يصبح للمواطن هيبة وسلطان وكرامة.
في القصة الأولى، وهي الواقع للأسف، يتمدد الفساد وتتراجع كرامة المواطن، ويدفع ثمنًا غاليًا مما يفقده من «الحياة، والسلامة، والشفافية، والعدل… إلخ».
أما في القصة الثانية، وهي خيال للأسف، فتمتد كرامة الإنسان والإصلاح، ويتراجع الفساد ويصغر، ويصبح الإنسان أقرب إلى السعادة.
مشهد مدهش من الواقع
أمام الناس في الشارع، توجه شرطي إلى سائق سيارة يعمل عليها، وقام بتأنيبه على مخالفة مثل «مرورية – عدم وجود طفاية حريق بالسيارة – حمل عدد من الركاب زائد – تحميل السيارة بمتاع يبرز منها ويمثل خطرًا على الطريق»، وقام بلكمه على وجهه وركله بالقدم في مؤخرته وشتمه، ثم تركه يكمل رحلته بالسيارة.
وحين سأله رفيقه قال: «هذا الشرطي طيب، فما فعله قليل بالنسبة لما يقدر على فعله، فقد كان يستطيع تغريمي كثيرًا، ولأنه طيب القلب اكتفى بهذا المشهد!»
هذه ليست قصة خيالية؛ فالمواطنون، وبسبب غياب الشفافية وتضارب القوانين وفساد الرقابة، واقعون سواء بإرادتهم أو رغمًا عنهم في مخالفات، وهذا المناخ فتح الباب لتفضيل إهدار الكرامة بدل إهدار المال أو الحبس. وهذه المعادلة تتشكل وتتطور في تطبيقات كثيرة بلا عدد، فتعريف الإهانة والكرامة سائل بيننا، ولهذا لم يشعر ركاب الحافلة بالإهانة.
يحكي صديقي:
في الجامعة، كان علي أن أشتري مذكرات دراسية، ليس مرجعًا شهيرًا، ولكنه كتاب قص ولصق، قام فيه الدكتور الشريف؛ المحترم؛ المهاب؛ لسلطته لا لشخصه، بتجميع بعض الفصول المنسوخة من مراجع شهيرة، اختار طالبًا ليعطيه المذكرة بعدد الطلبة، وأعلن أن من يريد الشراء طوعًا! عليه أن يشتري ثم يوقع أمام قائمة بأسمائنا.
وهذا يعني أنني إن لم أفعل؛ سوف أظل تحت رحمة هاجس الرسوب، لذلك علي أن أدفع «خمسة جنيهات» ثمنًا للإتاوة لفتوات الجامعة الكبار. لأن معظم الدكاترة يفعلون مثله، حتى أنني أذكر أحد الدكاترة المضحكين الذي أراد أن يوفر تكاليف هذا الطالب، فكان يقف عقب المحاضرة، وينادي قائلًا: «حد عايز يشتري المذكرة؟».
خمسة جنيهات مبلغ يسير اليوم، ولكن في زمني كان ثروة. هل تدري كم قدر تلك الثروة؟ كنت كلما أنصرف من الكلية، أسير ما يزيد عن سبع محطات وربما أكثر، من الخازندارة إلى باب الحديد، ثم أستقل القطار مستخدمًا اشتراكًا سنويًا، للرجوع إلى بلدتي، هذا لكي أوفر مبلغ «قرش ونصف»؛ هو ثمن المترو الذي كان يشق شارع شبرا. فخمس جنيهات تعني توفير (333) يومًا أسير فيها على قدمي تلك المسافة، وربما أنفق الدكتور هذا المبلغ في سهرة أمام التلفاز يتناول اللب والمكسرات مع أبنائه، أبناء الحلال!
نصحني أحدهم أن أذهب للدكتور وأعتذر بأنني لا أستطيع شراء المذكرة، قال لي: «هناك من يفعل هذا». بالفعل ذهبت في موقف ذليل، وطلبت منه أن يعفيني، لم يقل سوى كلمة «حاضر» ثم أشاح بوجهه. خرجت من عنده؛ وإذا بزميل يلحق بي ويقول: «إنك بهذا العمل الطائش، نبهته لي، وسوف أحمل المادة رسوبًا». شاورت زملاء أكبر مني سنًا، فتهت في حكايات، منهم من يقول: «لن يفعل»، ومنهم من يقول: «سيفعل». فاشتريت الكتاب.
المدهش أن الطلبة، وعددهم بالمئات والآلاف، لم يبرز منهم مثل هذا الراكب الذي تجرأ واعترض على سائق الحافلة. لم يسجل تاريخ الجامعة أن طالبًا تجرأ وسجل اعتراضه على تلك الإتاوة التي يسميها «مذكرة»، وهذا لا تبرير له سوى أن الطلبة وشبابنا يُهزمون نفسيًا ويُرَوَّضون على قبول الظلم والفساد منذ الطفولة.
في العيادات الخاصة يشتهر نوعان من أجرة الكشف: كشف عادي وكشف مستعجل. والمستعجل يعني أن يأتي متأخرًا ولكنه يدخل فورًا، متخطّيًا الحضور الذين دفعوا أقل منه، ولا يشعر أحد بالإهانة ولا يعترض، ولا يخطر بالبال مقاطعة هذا الطبيب الذي قسم المرضى إلى أغنياء وفقراء.
وعلى نفس المنوال يقوم أحد المرضى بإعطاء الممرض الذي ينظم الدخول مبلغًا كإكرامية، ولا يطلب منه شيء، ولكن معروف ما سيفعله. وفي المستشفيات الحكومية والخاصة يتطوع كثير من المرضى بإعطاء الممرضين وعمال النظافة وغيرهم أموالًا كإكرامية، حتى أصبح هذا هو الأصل، ومن لم يفعل سوف ينال إهمالًا، والإهمال في حق المريض يعرضه لخطر شديد.
﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ (الحج – 18). نحن نهين أنفسنا ثم نتساءل عن سر تفشي الظلم والفساد، ونلقي باللوم على الفساد والقهر السياسي، وما السياسة إلا نتيجة الاجتماع؛ فمجتمع سلبي وضعيف الضمير وقليل الهمة، يعني حكمًا سلطويًا وسياسة غير راشدة.
