اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشنر
محمد محمود غدية

الإنسان وحده المتميز على سائر الكائنات، بأنه مبتسم، حتى الابتسامة تراجعت وشحبت، ولم تعد غير تقليصة في الوجه وجذب وشد في عضلات الفكين، ابتسامة ميكانيكية، زيت يلين تروس العجلات الجافة لتدفعها للسير.
الأحداث الموجعة غافلتني وسالت في محبرتي، لطخت بياض ورقتي بالسواد المتمدد في الزوايا والأركان والعيون، نعيش عصر القلق والفقر العاطفي والجوع الروحي، الناس فيه يركضون، كأنهم فئران في انابيب اختبار، دون اهتمام وحب، يعيشون في غاب جديد من صنعهم أحبوه، عزلة الأنترنت والفضاء السيبراني، ولسان حالهم يقول: “أنا الغريق فما خوفي من البلل”.
على المنضدة المجاورة شاب يغسل فتاته بدفء نظراته، ويعانق كفيها، فتسحب كفيها شذرا، ويتبدل وجهها يتقلص ويضطرب، وترمي فتاها بألفاظ تبدو خادشه، لم أتبينها وتنصرف.
الفتى وحيدا ورماد سجائره، على منضدة أخرى جلست خمسينية، بوجهها مسحة من جمال شارف على الرحيل، تتطلع الى شاب وحيد، تقول دون صوت: هذا الشاب المسكين، لقد خدعه مظهري، انه لا يدري انني عجوز متنكرة في جسد امرأة شابة، دفعت اليه بابتسامة تلو أخرى، كانت تظن ان ابتسامته مسددة لها، حتى اكتشفت أنها للهاتف المحمول في يده، خاب مسعاها وانصرفت دون ان تكمل فنجان قهوتها.
آلاف المزامير حولي تنتحب وتتلوى على ألحانها انصاف النسوة المعجونات بالوجع، مثل طاحونة هواء اسلمت أذرعها للريح، تبتلعهن سحب الدخان والضجيج والتيه، أحمل مركبي الكسيح، أدور به في بحر بلا شطآن، يلفني الضباب ولا أجد المنار الذي كنت كلما تلفت أراه وضوءه المرتعش يلوح ثم يضمحل، يشتعل ثم ينطفئ!
أحدهم يتعلق بألواح مركبي الكسيح، المتراقص وسط الموج الصاخب، شددته ودفعت به للمركب، لم تفلح معه محاولات التنفس الفموي وقد فارق الحياة، برقبته قلادة نحاسية مدلاة، مكتوب بها انه ربان مدرب على الملاحة وسط الأمواج الصاخبة.