اللوحة: الفنان الروسي بيوتر ديك
سعاد الراعي

الفصل الخامس من رواية «خلعُ خاتم الطائفية»
تحرّكت السيارة كأنها قُذفت في مجرى لا رجعة فيه، تبتعد شيئًا فشيئًا عن السليمانية، تاركة خلفها أزقةً مطرزة بالذكريات المبتورة، وساعات انطبعت في الذاكرة كأختامٍ من دمٍ ومرارة. الطريق الممتد نحو عمّان بدا خيطًا رفيعًا يُضفَر على مهل بين تضاريس جرداء، كأن الأرض نفسها تتنفس على إيقاع رحيلها. في ذلك الفضاء الموحش، لم تُطلق عفراء الزغاريد كما تفعل النساء في مواكب الفرح، لم تبكِ بصوتٍ عالٍ كما يليق بالمقهورات، ولم تُوزّع وعودًا كبيرة كما فعلت في أوقاتٍ سابقة حين كانت تواسي نفسها بكلماتٍ خاوية. كلّ ما فعلته أنّها رفعت رأسها قليلًا، وملأت صدرها بأنفاسٍ ثقيلة كأنها تنتزع الهواء من بين أنياب القدر، ثم همست بصوتٍ يقطر من بين الشفاه المحترقة:
«لا موت اليوم…
لا قيد…
اليوم خطوة إلى الغد.»
كان الهمس أشبه بقرارٍ وجوديّ، أشبه بقَسمٍ تُلقنه لذاتها الممزقة. وفي تلك اللحظة شعرت أنّها لم تعد المرأة نفسها؛ أن ما مرّت به من إذلال وتهديد وامتحان قد أفرغ من قلبها كل خوفٍ قديم، وملأها بقوةٍ غير مألوفة. قوّة لا تقوم على النجاة وحدها، بل على التحدي والمواجهة. أحست أنّ الطائفية التي سحقَتها بقوانينها الجائرة لم تتركها كما كانت، بل دفعتها إلى أن تولد من جديد، امرأةً أكثر صلابة، وأكثر وعيًا بقيمة كرامتها، كمن خرج من النار لا ليحترق، بل ليصير جمرةً لا تنطفئ.
غير أنّ نفاذ بطارية هاتفها أزعجها، كأن هذا الجهاز الصغير آخر خيط يربطها بأهلها البعيدين وبالعالم الذي تهاوى خلفها. رفعت صوتها بثقةٍ غريبة على مسامع السائق، وقالت بلهجة آمرة لا تحتمل التردد:
ــ هل معك شاحن؟ … وإن لم يكن، فأعرني هاتفك. أريد أن أتصل بأهلي قبل أن نصل إلى طريبيل بساعة… أخبرني حين نقترب.
التفت السائق إليها مذهولًا. كان يدرك أنه لا يجلس أمام المرأة الضعيفة المرتجفة التي التقاها قبل يومين. النبرة الحاسمة التي خرجت منها بدت كالسوط، لا كبوح خوفٍ مستسلم. أدرك أنّ شيئًا تغيّر في أعماقها، وأنها لم تعد تلك الأسيرة المنكسرة، بل امرأة تحفر لنفسها مكانًا جديدًا وسط ركام الهزيمة.
تردّد قليلًا قبل أن يسأل، محاولًا أن يستعيد زمام المبادرة:
ــ ومتى ستدفعين؟ السيارة تحتاج إلى وقود.
رفعت حاجبها، وفي عينيها بريقٌ صلب لم يعهده فيها من قبل، ثم قالت بنبرة واضحة لا تقبل المساومة:
ــ قلت لك سأدفع قبل الوصول بساعة نصف المبلغ، والباقي حين نصل. والآن… أنا بحاجة إلى هاتفك إن لم يكن لديك شاحن.
ابتلع السائق ريقه، وأجاب متصنّعًا اللين:
ــ طيب… حين نتوقف للاستراحة أعطيك الشاحن.
لكنها لم تترك له مجالًا للالتفاف، بل واصلت بإصرار:
ــ أنا أحتاجه الآن. أعطني الشاحن. الهاتف سيحتاج وقتًا طويلًا ليُشحن.
مدّ يده عبر الفجوة بينهما، ودفع بالشاحن نحوها. لحظتها، أحست عفراء كأنها عبرت جسرًا خفيًا بين زمنين:
«زمنٍ كانت فيه مرعوبة تتوسل النجاة، وزمنٍ جديد تستعيد فيه إرادتها المسلوبة.»
كان ذلك الشاحن الصغير أشبه بمفتاحٍ لبوابة أخرى، بابٍ يفتح على إدراكها أنها باتت قادرة على أن تمسك بخيوط حياتها من جديد.
مدّت يدها إلى حقيبتها الصغيرة، فأخرجتها من بين ركام أشيائها كما يُخرج المرء قلبه المرتجف ليرى ما تبقّى فيه من حياة. فتحتها بتأنٍ وعدّت النقود ورقةً ورقة، كمن يواجه مرآة قاسية تكشف حاجته بلا رحمة. الأرقام لم تكن كافية، لكنها لم ترتبك. كانت في عينيها نبرة عناد لا تعرف الاستسلام.
انزلقت أصابعها إلى معصميها. هناك، حيث تلمع الأساور التي التصقت بجسدها منذ زمن بعيد، أساور، ورثتها منذ حكاية كابوس زواجٍها. رفعتها نحو الضوء، فرأت في بريقها شيئًا أشبه بقطع نقدية تنقذ الغريق. لم تعد مجرّد زينة، بل صارت مفاتيح صغيرة لأبواب النجاة، كأنها أرصدة احتياطية تحفظها لحظة الشدّة.
لكن عينيها لم تلبثا أن استقرتا على خاتم الزواج. تفرّست فيه طويلاً، وكأنها تراه للمرة الأولى.
كان يلمع بخبثٍ مُتعمَد في إصبعها، يذكّرها بما عانته، ويعلن عن قيدٍ ظلّ يطوّقها حتى في غفلتها. ارتجف صدرها، واندفع الغضب إلى أطرافها.
مدت يدها بعزم، وانتزعت الخاتم بقوة، كمن يقتلع شوكة صَدئة طال انغراسها في اللحم. في لحظة الخلع تلك، أحسّت بأن الدم يجري أكثر حرية في عروقها.
رفعت الخاتم بين أصابعها. كان ثقيلاً رغم خفته، صامتًا لكنه يصرخ بكل ما اختزن من قهر.
فكرت أن تقذفه في أقرب سلة نفايات، أن تتخلّص منه كما تتخلّص من ذكرى موجعة. لكنها توقفت. حدقت فيه بتمعّن، ورأت فيه سلاحًا أكثر من كونه عبئًا، شيئًا يمكن أن ينقلب ضد من كبّلها حين يحين الوقت. ارتسمت على شفتيها ابتسامة قصيرة، لم تكن ابتسامة فرح بل مزيج من التحدي والاستهزاء.
لفّت الخاتم في منديل صغير، وأخفته في الحقيبة بجوار نقودها القليلة. ثم أطبقت عليها بإحكام، كمن يغلق بابًا على سرّ كبير. في تلك اللحظة شعرت بخفة لم تعرفها منذ زمن. كان الهواء من حولها أوسع، كأن الأفق قد تمدّد أمامها بلا حدود، وكتفيها أكثر انتصابًا.
لم يعد الخاتم خاتمًا، ولا الأساور أساورًا. كل ما حولها تغيّر، لأنها تغيّرت. لقد خلعت في تلك اللحظة قيدها، لا من إصبعها فحسب، بل من حياتها كلها. وما تبقّى أمامها لم يكن طريقًا محفوفًا باليقين، بل طريقًا مفتوحًا، يكفي أن تمشيه بخفّة من تحرّر أخيرًا من ثقل قديم.
حين توقفت السيارة أمام أول محطة للوقود، لم تعد تلك المرأة التي تنزل خائفة مترددة. ترجّلت بخطى واثقة، وقفت أمام السائق وسلّمته المبلغ الذي وعدت به، ثم طلبت منه أن يجلب لهما طعامًا وماءً كافيًا للرحلة. نبرة صوتها لم تكن رجاءً، بل أمرًا هادئًا يخرج من قلب امرأة استردّت حقها في تقرير مصيرها. قبل أن يعود إلى مقعده، أعادت عليه بصرامة:
ــ أريد أن نصل قبل حلول المساء. ولا تنسَ أن تذكرني قبل ساعة من الوصول.
تأمّلها السائق لبرهة. لم يعرف كيف تغيّرت ملامحها في أيام قليلة. كانت بالأمس شبحًا لامرأة، والآن تراها شامخة رغم تعب السفر، يعلوها مس من كبرياء غريب. لكنه لم يُدرك أنّ تلك الكبرياء لم تولد من فراغ، بل من رحم المأساة، من أعوامٍ من القهر الطائفي الذي جرّدها من حقوقها كإنسانة. ذلك القهر الذي صادر منها طفولتها وحقها في الاختيار، ثم تركها تفرّ من مدينتها كالغريبة.
الطريق من جديد امتدّ أمامهما. الرمال تنزلق تحت عجلات السيارة، والسماء معلقة كقدرٍ لا يرحم. ومع ذلك، شعرت عفراء أن كل ميل تقطعه، إنما يضيف إلى روحها ميلًا آخر من الصلابة. لم تعد تسافر هربًا فحسب، بل تسافر بحثًا عن ذاتها المفقودة، عن امرأة لم يسمح لها المجتمع الطائفي أن تكون كما هي.
كانت تعرف أنّ المسافة إلى طريبيل ليست مجرد أميالٍ جغرافية، بل مسافة بين عالمين: عالمٌ قهرها وقيّدها بالعرف والدم والاسم، وعالمٌ آخر قد يمنحها حق أن تكون امرأة كاملة، لا ظلًا لأحكام الآخرين. في عينيها لمعت دمعة صغيرة، لكنها لم تسقط. أمسكت بها في محجرها كما تُمسك بالسرّ. فقد أقسمت أن تبقى واقفة حتى النهاية، أن تحمل جراحها كأوسمة، وألا تسمح مرة أخرى أن تُختزل في هوية مفروضة أو اسم مسلوب.
وفي أعماقها، تردّد صدى الهمس الأول:
لا موت اليوم…
لا قيد…
اليوم خطوة إلى الغد.
لقد ولدت من جديد، في طريقٍ محفوف بالريبة والخطر، لكنها هذه المرة لم تعد مجرد ضحية. صارت شاهدةً على الخراب، ومقاومةً لظلمه في آن. سيارةٌ تهتزّ على الإسفلت، وصحراء تمتد بلا حدود، وامرأة تكتب بعرقها ويقينها وبقايا أملها فصلاً جديدًا من وجودٍ لم يعد يشبه ما كان.
قال السائق بلهجةٍ مائلةٍ إلى الاحترام، كأنه يتحسّس صلابتها الجديدة:
ــ بقيت ساعة ونكون عند نقطة الحدود.
ثم التفت إلى الطريق واستقام صوته على هدوءٍ لا يخلو من حذر، كأن ما انكسر فيها من قبل قد التأم، وما عاد يصلح معه الابتزاز ولا رفع النبرة.
تفقّدت طفلتيها أولًا؛ رتّبت وضعهما في المقعد الضيّق، وسوّت شعرهما المليء بغبار الطريق، ومسحت وجهيهما بمنديلٍ مبلّل كمن يغسل عن روحه أثر ليلة طويلة. ناولتهما ما تبقّى من الطعام بحرص أمٍّ توزّع لقيمات على الجوع والرجاء، ثم جمعت ما حولها استعدادًا للنزول:
زجاجة ماء نصف ممتلئة، وشالٌ يُدفئ كتفًا صغيرة، وأوراقٌ تتأكّد من وجودها كل دقيقة، وحقيبةٌ تضمّ في قاعها خاتمًا لفّته في منديلٍ كي لا يلمظ في وجهها قيدًا بعد الآن. كل حركةٍ كانت تقول:
لقد نضجتِ تحت المطرقة، وخرجتِ أصلب ممّا كنتِ.
كان هدير المحرّك يسري تحت المقاعد كنبضٍ رتيب، وخارج النافذة تمتدّ الطريق كخيطٍ طويلٍ من صبرٍ لا ينتهي، شاحناتٌ ثقيلة تمضي، وأعلام حدودٍ تلوّح من بعيد كوعودٍ قريبة. داخل المركبة، اختلط دفء الأنفاس برائحة وقودٍ قديم، وانكمش الوقت في صدرها ككرةٍ من قلقٍ حارّ. ومع ذلك، كانت في عينيها سكينةٌ لا تُشترى:
سكينة امرأةٍ مرّت في النار فصارت تعرف درجاتها، وتعلم متى تقف ومتى تعبر.
تفقدت هاتفها؛ كان كامل الشحن أخيرًا. رفعتُه بأصابيع ثابتة، كأنها ترفع بابًا إلى صوتٍ اشتاقت إليه. منذ أسابيع لم يكن بينهما إلا رسائل قصيرة تتسرب من قلبها ما يكفي لتبقى واقفة. الآن جاء دور الصوت. ضغطت زرّ الاتصال، وارتفع في أذنها رنينٌ يفتح مسافة بين خوفٍ قديم وأملٍ يخطو على أطرافه. حين ردّت أمّها، لم تقل «مرحبا»؛ سبقتها غصّةٌ سالت في الأذن نحيبًا رقيقًا، فيه فرحٌ يلمع واعتذارٌ خجول يتعثّر بالحروف. كانت تسمع في ذاك النشيج كل البيوت التي أغلقت ابوابها عليها، وكل الأيدي التي دفعتها إلى مصيرٍ لم تختره، وكل ليلةٍ تشقّقت فيها طفولتها كصحنٍ من خزفٍ رخيص.
قالت، وصوتها متماسكٌ على رغبتها في النجاة:
ــ يا أمّي، استعدّوا لاستقبالنا عند نقطة الحدود على الأراضي الأردنية، في طريبيل. البنات متعبات جدا، وأنا كذلك. لا نحتمل المزيد من المغامرات ولا الانتظار الطويل.
لم تُطِل الشكوى؛ اختصرت حكايةً كاملة في جملةٍ قصيرة، كأنها تقطع حبلاً من استرسال الألم. سمعت أمّها تهتف باسمها بين بكاءٍ وحمدٍ لله، وتقول كلامًا يتعثّر بين
ــ سامحيني.. والحمد لله والبيت بيتك.
كان في نبرة الأمّ رجاءُ من يمدّ كفّه إلى ماءٍ بعيد، وفي نبرة الابنة عزيمةُ من تعلّمت أن ترتّب الطريق بيديها وإن امتلأ بالحفر.
أغمضت عينيها لحظة، وألصقت الهاتف بخدّها كأن فيه وجنة الأمّ الدافئة. شاركتها البكاء لا ضعفًا، بل اعترافًا بأن القلب حين ينجو يحتاج أن يغتسل بدمعه. ثم قالت بصوتٍ هادئٍ حاسم:
ــ ادعي لنا يا أمّي… لم يبقَ إلا مشوارٌـ قصيرٌ نعم ـ لكنّه المشوار الذي لا بدّ أن نعبره.
كان الدعاء هنا ليس طلبًا غيبيًّا فحسب، بل تواطؤًا بين قلبين على ألا يعود الماضي إلى افتراس ما بقي من الأيام.
أغلقت الخطّ، وأعادت الهاتف إلى حقيبتها. نظرت إلى طفلتيها؛ الكبُرى تحاول مقاومة النعاس لتبدو شجاعة، والصغرى تقبض على جزءٍ من شال أمّها كأنها تمسك العالم. ضمّتهما إليها بيدٍ، وبالأخرى شدّت الحقيبة إلى صدرها. تذكّرت الخاتم الملفوف في قاعها:
لم يعد شاهدًا على بيع الطفولة بل إيصالًا قديمًا يستحق التسديد.
«الحدود»، فكّرت «ليست سلكًا شائكًا ونقطة تفتيشٍ فقط؛ إنها حدٌّ بين امرأةٍ صُنعت لها حياة وبين امرأةٍ ستَصنع حياتها.»
كانت الساعة تمشي فوق الطريق ببطءٍ محسوب، والسيارة تقطع المسافة كما يُستأنف نفسٌ بعد غوصٍ طويل. كل بضع دقائق، ينعطف السائق لينظر في المرآة، فتلمح منه اعترافًا صامتًا بقوةٍ لم يتوقعها فيها. لم تعد هي التي تُقاد، بل التي تختار أين تقف وأين تُكمل. لعلّ العالم لن يصفّق لانتصارٍ صغيرٍ كهذا، لكن قلبها يعرف أنه الانتصار الذي يُبنى عليه كل شيءٍ لاحقًا: أن تحمي طفلتين من مزيدٍ من المغامرة، وأن تضع حدًّا للانتظار الطويل.
لمّا لاحت أوّل شواخص الحدود من بعيد، شعرت بأن الهواء صار أخفّ، وأن خطّ الأفق يقترب حتى يمكن قياسه بالكفّ. قالت لابنتيها وهمستها تخرج واضحة:
“أقتربنا”
التفتتا إليها، وفي عيونهما سؤالٌ يشرق. ابتسمت بعينين ابتكرتا الأمل من الرماد، وقالت لنفسها:
«أحتاج الآن إلى خطواتٍ قليلةٍ فقط… خطواتٍ بقدر قلبٍ تعلّم أن يمشي، ولو على الأرض الساخنة.»
في تلك الساعة الناقصة من الوصول، كانت المرأة التي خُدِشت بأكثر ممّا تحتمل قد صارت قادرةً على حمل نفسها ومن تحبّ. مأساةٌ ثقبتها السنين، نعم، لكنها نفذت منها إلى ضوءٍ آخر. وحين تهبط عند طريبيل، سيكون لكل دمعةٍ سالت معناها:
«ليست هزيمة، بل ماءٌ ضروريٌّ لغرسٍ قرّر أن يعيش. وإذا كان أمامها بعد ذلك طريقٌ جديد، فلأن الطريق هذه المرّة تمشيه امرأةٌ خرجت من المحنة أكبر من محنتها.»
حين بلغوا أوّل نقطة عبورٍ على الحدود العراقية، بدا الهواء أثقل من المعتاد، مزيجًا من غبارٍ عالقٍ وأصواتٍ متقطّعة لجنودٍ ينادون بعضهم بعضًا. توقفت السيارة، وعاد الصمت يتربّع على المقاعد الخلفية حيث تنكمش طفلتاها قربها كفرخي حمامٍ خائفين. أدار السائق رأسه إليها بابتسامة دافئة لم تعهدها من قبل، وقال بصوتٍ خفيض:
ــ أنا يمكنني أن أكمل الإجراءات إذا أعطيتني الجواز.
قبضت على أوراقها بيدٍ واثقة وأجابته وهي تحاول أن تُخفي ارتجاف قلبها:
ــ لا…
سأكون معك.
تأملها لحظة ثم قال:
ــ ممتاز. لكن أريدك أن تعرفي شيئًا:
أنا لم أتركك هنا، وسأرافقك حتى اجتياز نقطة التفتيش الأردنية القادمة. أريد أن أطمئن أن كل شيء مرّ بسلام.
كلماته لم تكن مجاملة عابرة؛ شعرت فيها بصدقٍ لم تعهده في رجالٍ كثيرين مرّوا بحياتها. شكرته بهدوء، وفتحت حقيبتها على عجل قبل أن تتجه صوب الحرس. قالت برجاءٍ فيه شيء من الحزم:
ــ انتظر… أرجوك.
مدّت يدها داخل الحقيبة، وأخرجت منديلًا أبيض يضمّ خاتم الزواج الذي نزعتْه من قبل في لحظة تمرّدٍ مؤلمة. تلك اللحظة كانت فاصلة في حياتها، أقرب إلى إعلان الطلاق الروحي قبل أن يكون واقعةً رسمية.
نزعت خاتمًا آخر ظلّ في إصبعها سنوات، خاتمًا من ذهب يعلوه حجر عقيقٍ أحمر كانت تؤمن أنّه يجلب لها الحظّ ويمنحها بعض التوازن وسط الفوضى. وضعت الخاتمين معًا في المنديل، لفّتهما بعنايةٍ تشبه عناية الأمّ بطفلها، ثم ناولت الحزمة الصغيرة إلى السائق قائلة بصوتٍ متماسك:
ــ أرجوك… أوصل هذه الأمانة إلى الخالة أم أحمد. هي على علمٍ بها، فقد كتبتُ لها رسالة نصية، وسأتصل بها لاحقًا.
لم يرفع السائق رأسه مباشرةً. كان كمن يقرأ في عينيها كل ما لم يُقال، ثم أومأ بالإيجاب.
أضافت وهي تفتح أصابعها المرتجفة على معصمها:
ــ ليس عندي ما يغطي المبلغ المتبقّي… لكن أساوري هذه تكفي وزيادة.
حاولت أن تنزع اساورها الذهبية، تلك التي التصقت بمعصميها كقيودٍ براقة لسنوات، لكن السائق مدّ يده سريعًا يمنعها، وقال بصوتٍ فيه اعتذارٌ رجوليّ نادر:
ــ لا داعي يا أختي… لا داعي أن تخلعي أساورك. ليس ضروريًا، لقد دفعتي ما يكفي. دعينا نذهب لإكمال الإجراءات بسرعة، قبل أن يحلّ المغيب، فأعود أنا لاحقًا.
تجمدت لحظة وهي تنظر إليه بدهشة. لم تتوقع أن يقابل عرضها برفضٍ كهذا.
كان في صوته احترام لم تسمعه منذ زمن بعيد، كأنّه أدرك أنّ المرأة التي بجواره لم تعد تلك الضحية المكسورة، بل صارت امرأة نضجت من رماد محنتها، امرأة عرفت كيف تحمي نفسها وطفلتيها حتى النهاية. لقد فرضت عليه احترامها بصلابتها، لا بتوسّلها.
اتجهت برفقته نحو نقطة الحرس والتفتيش الاخيرة. ارتفعت أصوات العساكر، رائحة العرق ممزوجة بالغبار والحديد، وجوه متعبة تتبادل الأوامر والشكوك. سلّمت أوراقها، وتابعت خطواتها بثباتٍ غريب. لم تكن تشبه نفسها القديمة التي كانت ترتعش من فكرة المواجهة. الآن تسير وكأنها عبرت النهر، ولم يتبقَّ إلا أن تجفّف ثيابها.
اكتملت الإجراءات أخيرًا. وقفت إلى جانبه، تصافحا مودّعين، فشدّ على يدها وقال بصدقٍ جليّ:
ــ سلامة الوصول. وسأوصل الأمانة إلى أم أحمد كما طلبتِ.
شكرته بعينين دامعتين، ثم استندت إلى جدارٍ إسمنتيّ قرب النقطة تنتظر سيارة أخيها التي ستقلّها إلى ما بعد الحدود، الى عمان. كان الغروب يرسم السماء بألوانٍ برتقالية داكنة، كأن الشمس نفسها تستعد لعبورٍ آخر.
أخرجت هاتفها وأرسلت رسالة سريعة إلى أم أحمد:
ــ أشكرك من القلب… سلّمي خاتم الزواج إلى حيدر، الجلّاد، أخو زوجي، ليعرف أنني طلّقتهم جميعًا دون رجعة. أمّا خاتم العقيق، فهو هدية صغيرة، من ابنتك عفراء… لتتذكريني بها، اعاهدكِ أنى لن انساك ما بقي فيّ نفسًا، حتى الرمق الأخير من عمري.
انزلقت الكلمات من أصابعها كدموعٍ مكتوبة.
«لم تكن مجرّد رسالة، بل كانت بيانًا ثوريًا صغيرًا، إعلانًا رمزيًا أنها خرجت من الطوق الذي كبّل حياتها باسم الطائفة، باسم الأعراف، باسم “الشرف” الذي كان غطاءً لذلٍّ طويل.»
هي الآن تقف على الحدود لا لتجتاز جغرافيا فحسب، بل لتكسر جدارًا أُقيم حولها منذ الطفولة، جدارًا من المحرّمات والتهديدات والوصايا التي لم تكن سوى أسوارٍ لسجنٍ طويل.
أغمضت عينيها لحظة. رأت طفولتها تُساق بالعصا نحو مصيرٍ لم يختره قلبها، رأت زواجها يُعقد كصفقةٍ في سوقٍ مزدحم، رأت لياليها تُسرق منها تحت ظلال الطائفة وقوانينها التي لا تعرف الرحمة. ثم فتحت عينيها على صورة طفلتيها الملتصقتين بكتفها، فابتسمت. ابتسامة امرأة تعرف أنّها دفعت الثمن كاملاً كي تمنحهما حريةً لم تعرفها هي.
كانت الحدود أمامها، والليل يقترب بخطاه الثقيلة. لكنها لم تعد تخاف. ثمة نارٌ داخلها تحوّلت إلى نور، وثمة دموعٌ ذُرفت حتى آخرها ولم يبقَ منها سوى لؤلؤة صلبة تلمع في عينين متعبتين. وحين سمعت بوق سيارة اخيها يقترب، أدركت أنّ الطريق الذي ستمشيه بعد الآن لن يكون طريق امرأةٍ تُساق، بل طريق امرأةٍ اختارت أن تمشيه بقدميها، مهما كان شائكًا.
مدت بصرها إلى الافق المائل إلى حُمرة الغروب، وقالت في سرّها:
“لقد طلّقتكم جميعًا… لا رجلٌ ولا طائفة ولا قانون يمكن أن يعيدني إلى الوراء.”
وحين انطلقت السيارة تقلّها نحو الجانب الأردني، كانت تعرف أنّ مأساة المرأة الضحية لا تنتهي هنا، لكنها أيضًا لا تبدأ من جديد. لقد كتبت بيدها خاتمة فصلٍ قديم، وفتحت على آخر صفحةٍ من حياتها:
امرأة نجت من قفصٍ صنعته الطائفة واعرافها، لتكتب مستقبلها بنفسها، حرّة، ولو جُرحت ألف مرة.
(يتبع)
الفصل الرابع: ليلةٌ على حافّة المجهول