اللوحة: بورتريه للفنان فان خوخ بريشته
ترجمة مهدي النفري

إن الحديث عن حياة الفنان الهولندي فينسنت فان خوخ العاطفية تتمحور في الغالب حول المصاعب. لقد شعر فينسنت بحب عميق تجاه عدة نساء وبعضهن بادلنه المشاعر، لكنه لم يعرف السعادة الحقيقية في الحب قط.
لماذا لم يُكتب له النجاح في ذلك؟
(لدي دائمًا قصص حب مستحيلة وغير مناسبة على الإطلاق، وعادةً ما أخرج منها خاسرًا مع الكثير من الندم.) فنسنت في رسالة الى اخته فيليمين من باريس، أواخر أكتوبر 1887.
نوعان من النساء
لماذا لم تنجح علاقاته الغرامية؟ هذا سؤال يصعب الإجابة عنه. لكن ما نعرفه هو أن حياة فينسنت العاطفية تأثرت بنظرته للمرأة. كان فينسنت يرى أن هناك نوعين من النساء
- النوع الأول: نساء من طبقته الاجتماعية كان يراهن كـكائنات أعلى.
- النوع الثاني: نساء من الطبقات الدنيا في المجتمع كان ينظر إليهن بنوع من الشفقة والتعاطف.
هذان النوعان من النساء كانا قاسماً مشتركاً في حياة فينسنت العاطفية. فغالباً ما كان يقدس النساء اللواتي يقع في حبهن أو أن حبه كان نابعاً من شعوره بالشفقة ورغبته في مساعدة إحداهن.
على من وقع فينسنت في الحب؟
ولماذا لم يستطع الحفاظ على ذلك الحب؟
سنستعرض لك أهم أربع قصص حب في حياته.
1. كي فوس-سترايكر
في صيف عام 1881عندما كان فينسنت يبلغ من العمر 28 عامًا وقع في حب ابنة عمه كي فوس-سترايكر من النظرة الأولى. هذا الحب من طرف واحد نما عندما كان فينسنت يقيم مع والديه في إيتن، بينما كانت كي هناك لكونها أرملة حديثة. تملكت المشاعر من فينسنت، فكتب لأخيه ثيو
“أردت أن أقول لك إنني أحببت كي فوس هذا الصيف لدرجة أنني لم أجد كلمات أفضل من ‘إنها أقرب الناس إليّ، وأنا أقرب الناس إليها’، وهذه الكلمات قلتها لها بالفعل”.
لم ترَ كي في ابن عمها عريسًا مناسبًا وكان ردها على عروضه المتكررة هو (أبدًا، لا، أبدًا).
تجاهل فينسنت هذا الرفض الصريح وذهب لزيارتها في وقت لاحق من نفس العام في أمستردام، لكن محاولته باءت بالفشل فابنة عمه لم ترغب في رؤيته. رأى والداه وبقية أفراد العائلة أن حب فينسنت لها غير لائق. ورغم أن موقفهم كان صحيحًا إلا أن فينسنت حزن كثيرًا بسبب ذلك.
بعد سنوات كتب فينسنت لثيو عن كي: “إنها كانت وما زالت جرحًا أتعايش معه، لكنه عميق ولا يمكن أن يشفى”.
2. سين هورنيك
بعد عام التقى فينسنت في شوارع لاهاي بامرأة تُدعى سين هورنيك. كانت سين بائعة هوى وحاملًا ولديها طفلة صغيرة بالفعل. أراد فينسنت أن يكون عائلتها فاصطحبها هي وأطفالها إلى مرسمه المتواضع. للحظة بدا أن حلمه العميق بتكوين أسرة قد أصبح حقيقة. عاش فينسنت وسين والطفلان معًا في هدوء وسكينة لبعض الوقت. لكن للأسف لم تكن قصة الحب هذه نهاية سعيدة أيضًا. ربما كان السبب أن مشاعره تجاه سين لم تكن بعمق مشاعره نحو ابنة عمه كي.
كتب فينسنت لأخيه ثيو: “أشعر تجاهها بمشاعر أقل شغفًا مما شعرت به تجاه كي فوس العام الماضي، لكن الحب الذي أقدمه لسين هو كل ما تبقى لي. أنا وهي شخصان تعيسان يؤنس كل منا الآخر، ونتشارك حمل المعاناة وفي هذه المشاركة بالذات تتحول التعاسة، إلى سعادة ويصبح ما لا يُحتمل محتملًا”.
كان فينسنت تحت ضغط عائلته لإنهاء هذه العلاقة. فوالداه وثيو كانا يرفضان بشدة العيش معًا دون زواج، خاصة وأن المرأة من طبقة اجتماعية أقل وعملت في الدعارة.
بدأت الشكوك تتسرب إلى نفس فينسنت أيضًا. استمرت سين في التواصل مع والدتها وأخيها اللذين كانا السبب في دخولها عالم الدعارة. وخشي فينسنت أن تعود إلى تلك الحياة إن لم تقطع علاقتها بهما.
وخلال العام ونصف العام الذي قضياه معًا رسم فينسنت عدة لوحات لسين وأطفالها.
3. مارخوت بيغمان
كانت عائلة فان خوخ تشعر بقلق بالغ بسبب حياة فينسنت العاطفية المضطربة. شعر الأب والأم بالإحراج من مشكلة كي العائلية، ولم ينسيا أبدًا خطط فينسنت للزواج من سين. وعندما انتهت كل تلك المتاعب وقع فينسنت مرة أخرى في حب امرأة لم يقبلها المجتمع من حوله.
في عام 1884، عاد فينسنت البالغ من العمر ثلاثين عامًا للعيش مع والديه في نويين، وهناك نشأت علاقة بينه وبين جارته، مارخوت بيغمان، التي كانت تعاني من عدم استقرار نفسي.
مرة أخرى كان هذا الحب نابعًا بشكل أساسي من الشفقة. كتب فينسنت لأخيه ثيو: “أشعر بشفقة لا تُصدق على هذه المرأة”.
أراد فينسنت الزواج منها لكن والديه وأخوات مارخوت وقفوا ضد هذه الفكرة، فقد رأوا أنهما لا يشكلان ثنائيًا مناسبًا.
انتهت العلاقة بشكل مأساوي. فبعد أن أدركت مارخوت أن عائلتها ترفض علاقتها بفينسنت رفضًا قاطعًا حاولت إنهاء حياتها. نجت من الموت لكن العلاقة كانت قد ماتت بالفعل.
4. أغوستينا سيجاتوري
كانت الوحدة ترهق فينسنت بشدة. غالبًا ما كان يتوق إلى امرأة وعائلة، لكن يبدو أن الحظ لم يحالفه أبدًا. حتى في باريس التي انتقل إليها في سن الثانية والثلاثين (1886)، لم يحقق نجاحًا كبيرًا في الحب.
في مدينة الحب باريس التقى بأغوستينا سيجاتوري المالكة الإيطالية لمطعم (لو تامبوران) في شارع كليشي. نشأت علاقة بينهما، ووفقًا لصديقه بول غوغان كان فينسنت يغرق في حبها.
في البورتريه الذي رسمه لها تجلس على مقعد أمام طاولة على شكل طبل وكوب بيرة على الطاولة وسيجارة مشتعلة في يدها. الأطباق الصغيرة تحت الكوب تلمّح إلى أنها تناولت أكثر من مشروب. كان المقهى وجهة مفضلة للفنانين الذين كانوا يعرضون أعمالهم هناك بانتظام، وفينسنت أيضًا عرض لوحاته.
لا نعرف بالضبط كيف انتهت علاقتهما، لكنها لم تستمر لأكثر من بضعة أشهر.
كتب فينسنت: (بالنسبة لـ سيجاتوري فالأمر مختلف تمامًا. ما زلت أشعر بالمودة تجاهها وآمل أن تكون هي أيضًا تبادلني نفس الشعور. لكنها حاليًا في وضع صعب).
لا بد أن فينسنت كان يحمل لها مشاعر عميقة. ففي الفترة التي قضياها معًا، رسم العديد من اللوحات التي تصور أزواجًا من العشاق. أشهرها (حديقة العشاق) وهي رؤية رومانسية لحديقة ساحة سان بيير. هل من الممكن أن فينسنت رسم نفسه هناك مرتديًا رداءً أزرق وقبعة من القش بجانب السيدة التي تحمل المظلة؟
المصالحة مع النفس والواقع
بعد سلسلة علاقاته ومحاولاته الفاشلة تقبّل فينسنت حقيقة أن الحب السعيد ربما لم يُكتب له، رغم حاجته العميقة للمودة مثل أي إنسان. كان قد كتب قبل سنوات (حين تستيقظ في الصباح ولست وحيدًا وترى في نور الفجر الخافت روحًا أخرى بقربك يصبح العالم مكانًا أكثر دفئًا بكثير).
لماذا لم يحالف الحظ فينسنت في الحب؟
هو سر لن نتمكن من كشفه بالكامل أبدًا. ربما كانت لديه شخصية معقدة بعض الشيء. وربما لم يساعده ميله للوقوع في حب نساء كان يرى أنه يجب (إنقاذهن)، لكن هذه ليست سوى تبريرات سطحية. أحيانًا ببساطة لا تنجح الأمور وهذا أمر محزن.
(ما زلت أحب الفن والحياة كثيرًا لكنني لم أعد أؤمن كثيرًا بأنني سألتقي بامرأة أخرى)٠
حياة جديدة في جنوب فرنسا
في النهاية تخلى فينسنت عن أمله في الحب وهذا القرار منحه راحة كبيرة.
انتقل إلى جنوب فرنسا ووجد العزاء في (أحبابه الذين يبادلونه حب الفن، والطبيعة، وأخوه ثيو)
ما لم يكن يعرفه حينها هو أن تلك الفترة ستكون من أخصب المراحل في حياته كفنان.
*مهدي النفري شاعر ومترجم صدرت له مجموعة من المؤلفات، تنوعت بين أعماله الشعرية وترجماته الأدبية.