اللوحة: الفنان الكندي ماثيو لاكا
أمجد ريان

هل ستظلُّ نظراتُنا هكذا متسائلة، بل خائفةً تفيضُ بالرِيْبةِ والحذر.. هل ستظلُّ العزلةُ هكذا مضروبةً حولنا، أحسُّ باختناقِ العزلة، العزلةِ الوحشية، أصبحنا مثل “دون كيشوت”، نريدُ أن نتحقق، أن نفعلَ أي شيء يشغِلُ بالَ الآخرين، ومن هنا يكونُ ما بعد المحدثين نسبيّين وحسيّين.
كنت في حجرتي أسمعُ صوتَ الحذاءِ النسويّ في الخارجِ بوضوح، والعقلُ يضربُ في متاهتِه، الشيخوخةُ تغزوني، البطنُ المترهّلةُ فوق الحزامِ الجلديّ، وها هو الشَعْرُ قد تساقط، والشَيْبُ بدأ يشتعلُ في رأسي، أظلُّ أفكِّر، وحياتُنا لا تكادُ تُطاقُ بدونِ الأوهام، لا حدودَ للبوْح لدىّ، أحلمُ بالتحرّر، التحرّر من كلِّ أشكالِ الاستغلالِ والاستلاب: من النافذةِ أنظرُ للرجلِ الذى يرفعُ غطاءَ السيارةِ الأماميّ إلى أعلى، ويغرقُ بمنتصفِ جسدِهِ في داخلِ السيّارة، ولا يريدُ أن ينتهى، يمرُّ الوقتُ وهو لا يريدُ أن ينتهى، أريد للغتي أن تَنْهَلَ مما هو قدسيّ، أو تظل على الأقلِّ على حافةِ القدسيّ، أريدُ للغتي أن تكونَ طازجة، ويمكنني، مثلاً، لكى أحافظَ على هذه الطزاجةِ أن أصفَ الفتياتِ اللائي يخرجن لشراءِ الثياب، يمضِّين ساعـاتٍ يجربْن الملابس، ويمشين بأصابِعِهِن الطويلةِ الناعمةِ فوق مشدَّاتِ الصدر، أو يتحسّسْن انضباطَ المقاسِ على الامتلاءِ المثاليّ للفخذين، ويراقبن، بعيونٍ فاحصة، صوَرَهُن في المرايا ثلاثيةِ الأبعاد، ويتأكدْن من مسقطِ النّظرِ فوق الزاويةِ الداخليّةِ للنهدين، ويَدْعَكْن ملمسَ القماشِ على هَضَبَةِ البطن، ويترددنَ طويلاً في اختيارِ الألوانِ التي تناسبُ جوعَ الجسد.
كانت صورةُ المقتولِ في حادثةِ السيارةِ فظيعاً، سقفُ السيارةِ مطبَّقٌ فوق ظهرِهِ والدَّواسَةُ اخترقت الصَدْر، وشظايا الزجاجِ مرشَّقةٌ في اللحمِ والملابس، والرأسُ شبه مهشّم، والدماءُ الغليظةُ اللَّزِجَةُ تملأ الفجوات.
حين يشيخُ المرء، يميلُ للتذكّر: تذكّرِ الصّورِ والأسماءِ والمواقف، ومن دلائلِ الشيخوخةِ أيضاً، الإحساسُ بسرعةِ الزَّمن، وملاحظةُ أن الممثلين في المسلسلاتِ تحولوا من أداءِ أدوارِ الشبابِ إلى أداءِ أدوارِ الشيوخ: قضيتُ عمرى أنادى بإمكانيّةِ أن يحدثَ الاندماجُ بين الأساليبِ غيرِ المتشابهة، كانت العولمةُ تحيطُ بي، وأنا أغمسُ رأسي في فجوةِ الوسادةِ التي كان الرأسُ يملؤُها، مستلقياً، واضعاً رجلاً على رجلٍ والسقفُ يتأرْجَحُ على القدمين، ومن ثمَّ أطرحُ أسئلتي الملحةَ المقلقة: هل الحسُّ الطفوليّ الذى أريدُ أن أطرحَه بقوةٍ سأستطيعُ أن أستحضرَه في أي لحظة؟ هل الفتاةُ التي اشترت هذا المعطفَ الإيطاليّ المحاطَ بالزغبِ الأبيضِ الناعم، المعطفِ ذي الأكمامِ المنتفخةِ من الصوفِ الطبيعي، هل ستنامُ في داخلِهِ من فرطِ الَّلذةِ الغامضةِ والدفء؟ هل هذا الازدحامُ العنيفُ في شوارعِ حلوان الجانبيةِ يخلو من أي معنى سوى تنافسٍ وحشىٍّ على البقاء.
يغيبُ الوجهُ في دُكْنةِ الظلال، وذاكرةُ الشكل، تملأ التصوّرَ: توالى البيوتِ بتورياتِها وايهاماتِها وتعبيراتِها، تتراصُّ فوق الدروبِ الإسمنتيّةِ الحزينة، أصابتني حالةٌ من نسيانِ الشيوخِ: يكونُ الاسم على طرفِ اللسان، وأنساه، وأظلُّ أفكّرُ باعتباري شيخاً كيف أن الساعةَ الصغيرةَ على معصمي تعُدُّ الدقائقَ بالعقارب. أما الساعات الكبرى فلا تنشغلُ بعدِّ الدقائقِ، ولكن تنشغِلُ بعدِّ القرون والأحقابِ السحيقة: ضيقٌ فى الشرايين والأوعيةِ الدمويّة، “الفلاشُ” في شبكيّةِ العين، والمجراتُ تبتعدُ عن بعضِها بسرعاتٍ هائلة، المجراتُ تبتعدُ عنى الآن بسرعةٍ لا يتخيلُها أحد. هل تسمعون صوتَ ملعقتي وهى تدورُ بإلحاحٍ في كوبِ الشاي، أنا لستُ على ما يرام، تصطدمُ أنوارُ السياراتِ بزجاجِ النافذةِ فتضيء حجرتي الحزينة، وهناك شيء من إحساسِ النشوةِ عند وضعِ القدمِ الحافيةِ على البلاطِ البارد.