البطولة

البطولة

اللوحة: الفنان البولندي باول كوزنسكي 

  •  البطولة بين الرهبنة والتشتت

في كتاب «كتب لها تاريخ» للمفكر جلال أمين، ذكر استضافته للروائي الطيب صالح ليحاضر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ونقل عنه قوله:

«إنه لا يتصور بسهولة كيف استطاع شخص كنجيب محفوظ مثلاً، أن يكرّس حياته كلها على هذا النحو للكتابة، ونحن نعرف أنه لم يترك مصر قط إلا في رحلتين قصيرتين إلى اليمن ويوغوسلافيا، وبالرغم منه، حرصًا منه على ألا يفسد السفر أو أي شيء آخر النظام الذي وضعه لنفسه في الكتابة والقراءة. لا عجب أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل. أما يوسف إدريس فقد فعل شيئًا مختلفًا تمامًا، فكتب أشياء كثيرة رائعة حقًا، ولكنه أيضًا عاش حياته بالطول والعرض».

وذكر أنه عندما التقى الطيب صالح في بغداد مع يوسف إدريس، بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل بقليل، وجده غاضبًا وثائرًا لأنه اعتبر نفسه أَجْدَر بالجائزة. فقال له:

«ما أعجبك يا رجل! أتريد أن تفعل كل هذا: أن تعشق وتلعب وتشرب وتطوف بلاد العالم تلهو وتمرح، وتريد فوق ذلك كله أن تحصل أيضًا على جائزة نوبل؟!»

هذه الفقرة لا تقصد التقليل من إنجاز يوسف إدريس في مجال القصة القصيرة والمقال والإسهام الثقافي في مصر، لكنها تؤكد أن نموذج نجيب محفوظ ومن سار على دربه من العظماء، وهب حياته للرواية، فكان راهب فكر لا يسمح بتشتيت طاقته في غيرها. أما يوسف إدريس فكان أفضل كتّاب القصة القصيرة، ولكنه لم يستطع أن يخلص بموهبته كما فعل نجيب محفوظ.

فمن وهب نفسه للتربع على قمة هدف سامٍ، يبخل بجهده أن يراق في إناء هدف آخر. البطولة كانت في مقدار ثمار عمله التي تبقى بعد وفاته؛ فلا أحد يسأل اليوم عمّا تركه نجيب من مال لأولاده، بل عمّا تركه للناس. وهذه هي البطولة، وهذا هو العمل الصالح في أعلى درجاته.

 ***

  •  البطولة واعية ومتحدية

في عام 1850 كان الطبيب النمساوي سيملفيس يعاني حيرة كبيرة في محاولة تفسير ظاهرة غريبة في عيادة التوليد بمستشفى فيينا العام، حيث كان معدل الوفيات في أجنحة الأطباء ثلاثة أضعاف الوفيات في أجنحة القابلات. فمن المفترض أن الأطباء متخصصون ودارسون، بينما القابلات مجرد مساعدات لهم ولم يحصلن على علم ولا دراسة مثل الأطباء.

وبالملاحظة والتفكير وجد أن الفرق يكمن في وجود مشرحة ملاصقة لجناح الولادة الخاص بالأطباء. وفي يومٍ جرح طبيب نفسه في المشرحة أثناء عمله، فسال الدم ثم مات سريعًا. فربط سيملفيس بين الجرح والمشرحة والوفاة، وتنبأ بأن هناك شيئًا دقيقًا غير مرئي ينتقل إلى الدم ويسبب الوفاة، وهو ما يسمى بـ حمى النفاس.

أصدر أوامره للأطباء بألا يدخلوا جناح الولادة مرورًا بالمشرحة، وطلب منهم غسل أيديهم قبل إجراء عملية الولادة بمحلول مطهر. لكن لم يستمع إليه أحد، وقاومه الأطباء والعلماء، ودافع بقوة عن فكرته، ولم يصدق أحد أن هناك شيئًا اسمه جراثيم. وشكك زملاؤه في سلامة عقله، فدخل المصحة وتعرض للضرب والإهانة وتوفي، ولكنه كُرِّم بعد وفاته حين تقدم العلم وتوفرت أدوات رؤية الجراثيم الدقيقة التي وراء حمى النفاس.

هذا الطبيب يمثل نموذجًا آخر للبطل؛ فقد عاش لقضية إنسانية وليست شخصية، ونبّه الناس إلى خطر خفي، ونال الأذى الشديد حتى مات مهانًا ومقهورًا. ولو صمت لعاش سعيدًا مكرمًا، لكنه اختار أن يضيء الجرس الذي أنقذ حياة الناس من بعده.

***

  •  حين تكون البطولة راية ترتفع بعد الموت

رأينا كثيرًا مشاهد كوميدية لسيدة أو لرجل أصلع يرتدي باروكة، فتشتبك بأطراف عصا فتقفز الباروكة من فوق رأسه فيضحك الجمهور، أو مشهد سيدة تضع مساحيق كثيفة تظهرها شديدة الجمال، ثم تتعرض لظروف طارئة تذيب تلك المساحيق عن وجهها فيندهش الجمهور ويضحك.

في الحياة ينشط كل الناس، ويتلقون تقديرًا يستحقونه أو لا يستحقونه، وإهانة مستحقة أو غير مستحقة. قد يكون إنسان بسيط في مهنة شعبية قليلة المواهب، وقد يكون إنسان شهير في كوكب الأرض. فلا يغرّ الناس ما بين الشخصين من مسافة فلكية في الدنيا، فحين يهبط الموت على الإنسان يصبح مثل الأمطار والرياح والحرارة على جسد المرأة: يذيب كل زائف ينتحله ويثبت كل أصيل فيها، ولا يترك الموت سوى الذكرى الحقيقية.

ينزع الموت عن الإنسان كل أدوات التجميل والتنكر، ولا يتبقى حيًا سوى الحق من ذكراه؛ فلو نسيه الناس بعد أيام من وفاته، فسوف ينضم لمن عاش ومات وخفي ذكره. ولو ظلت آثاره وأعماله الصالحة تنطق في الدنيا، فسوف ينضم لسجل الأبطال. فالبطولة تكون بقدر ما يبقى منك بعد رحيلك.

***

  •  الشعوب بين البطولة والابتزاز

تابع المصريون عام 1979م مسلسلًا لأسامة أنور عكاشة بعنوان «المشربية»، بطولة شكري سرحان وسميحة أيوب ومجموعة من أقدر الفنانين. كانت البطولة لفتوة سابق وتائب اسمه «عباس»، هجر الفتونة والشقاوة منذ زمن، ولجأ لممارسة عمل شريف.

طوال الحلقات يمارس لص آثار شره تحت أعين عباس، وعباس ساكت وصابر، واللص يتمادى في تحديه وهو واثق أنه لن يستطيع مواجهته، والناس ينظرون ويتعجبون. يرونه الفتوة القوي الأمين «عاشور الناجي» الذي ابتدعه نجيب محفوظ. وطالما عباس خائف فلا بد أن يخاف الناس ويصمتوا على ما يحدث.

تابعت هذا المسلسل، وكادت مرارتي أن تنفجر غضبًا لعباس وحنقًا على استسلامه. وفي نهاية المسلسل، ظهر أن هذا اللص يمسك على عباس ذنبًا قديمًا ويهدده بكشف أمره وسجنه. وفي الحلقات الأخيرة أدرك عباس ألا حل سوى أن يفعل الصواب وليحدث ما يحدث، فتصدّى للسرقة والإهانة، وسُجن عباس وقُبض على عصابة سرقة الآثار، ثم خرج من السجن. وليته فعل هذا مبكرًا؛ لم يكن فاقدًا لقدرته ولا ضميره، ولكنه كان طريح الابتزاز. والابتزاز عفريت سوف ينفلت اليوم أو غدًا، والبطولة أن يواجهه الإنسان مبكرًا ويصحح.

شعوبنا ليست فاقدة لقدرتها ولا ضميرها، لكنها واقعة تحت الابتزازات. ومن يخضع للابتزاز خاسر بلا نهاية وسوف يدفع الثمن أضعافًا مضاعفة. كل الشعوب الخائفة تغاضت عن الإهانة سنوات طويلة جدًا، واليوم كلها تدفع الثمن أضعافًا مضاعفة.

كلهم يقعد على خازوق:

 خازوق لكل مواطن.

 وخازوق لكل حاكم.

 وخازوق لكل دولة.

حتى إسرائيل وأمريكا تجلسان اليوم على خازوق على مقاس شرهما. وصمت الأبطال رهبة من الابتزاز لا بد أن يُواجه كما فعل عباس. لتصعد القيم، وتصحُو الشعوب، ويحق الله الحق.

***

  •  البطل الفرد

في فيديو تعليمي شهير، يقوم المحاضر في بداية المحاضرة بطرد طالب بقسوة وبلا مبرر، ثم يوجه الكلام للطلبة:

المعلم: ما فائدة القانون

الطالب: تحقيق العدالة.

المعلم: وهل من العدالة أن أطرد زميلتكم ولم تفعل شيئا بينما أنتم صامتين ومستعدين لمواصلة الدرس معي!.

ثم أخذ يشرح لهم:

– لم تعترضوا لأن الموقف لم يمسكم شخصيا وهذا يضركم ويضر بالحياة، لأنكم تتوهمون أن الأمر لا يعنيكم، ولكني أؤكد لكم أنكم لو لم تساهموا في تحقيق العدالة ستواجهون الظلم وحدكم ولن يقف أحد بجانبكم، الحقيقة والعدالة مسؤوليتنا جميعا، ويجب أن نكافح من أجلها، لأنه في الحياة والعمل، ربما نعيش بجوار بعضنا البعض وليس مع بعضنا البعض، ونحن نبرر لأنفسنا أن مشاكل الآخرين لا تعنينا ولا تخصنا، ونعود في المساء إلى المنزل سعداء أن نجونا بأنفسنا، ولكن الأمر يتعلق بوقوفنا بجانب بعضنا كل يوم، يحدث الظلم كل يوم في العمل والحافلة والرياضة، فالاعتماد على شخص آخر ليحرس العدالة ويطبقها ليس كافيا ولا جيدا، من واجبنا أن نقف إلى جانب الآخرين وأن نتحدث نيابة عنهم حينما لا يستطيعون ذلك، أنا هنا لأعلمكم قوة الصوت الذي تملكونه، أن تتعلموا التفكير النقدي لتتمكنوا من الوقوف بجانب الحق، حتى لو كان ذلك يعني مخالفة ما يفعله الجميع.

هذا الدرس يعلمنا أن المجتمع البطل، الذي يتعلم ويتدرب على الإيجابية ورفض الظلم، ولا بد من وجود أفراد لا يغيب عنهم هذا الدرس ليبادروا بالبطولة التي تواجه الفساد والتجاوز في بداياته وتمنعه من التمدد في مناخ من السلبية.

***

لو جرى احصاء لأحداث الاعتراض على ظلم صدر من مدرسي الجامعة تجاه الطلبة في مصر، لفشلت عملية الإحصاء لأن الحوادث نادرة ولأسباب ليس لها علاقة بمقاومة الظلم، يقوم دكتور الجامعة بفرض بيع مذكرة من بعض الأوراق ويفرض على الطالب الذي يشتري المذكرة أن يكتب أسمه، وفي هذا تهديد مبطن بأن من سيختفي أسمه معرض لخطر الرسوب، وجرت هذه العملية لعشرات السنين ومع الآلاف من دكاترة الجامعة ولم يعترض أحد، وهذا دليل على أننا تدربنا وتربينا في بيوتنا ومدارسنا ومؤسساتنا على الطاعوية وقبول الظلم دون اعتراض، فشيوع الظاهرة دليل على أننا نستحق الظلم الذي قابلناه بالصمت.

سوف أتخيل حادثة لم تحدث، أن طالبا من ملايين الطلبة قام في صالة المحاضرات وتوجه للمحاضر قائلا:

«لماذا تصر على كتابة إسم مشتري المذكرة؟ ولماذا المذكرة أغلى من المرجع الذي يحوي أضعاف ما بداخل المذكرة؟»

هذا الطالب سوف يطلق صوتا يخترق جدار الصمت، وسوف يغامر، ولكنه سيكون بطلا، ومن المؤكد أنه سوف يشجع بقية الطلبة على مساندته وتكرار السؤال، ولو حدث هذا منذ عشرات السنين لما استمرت هذه الظاهرة السيئة ولاستجاب النظام الجامعي لمنع هذا الاستغلال الشرير.

البطولة والأبطال هم ملح الشعوب، وحين يغيب الملح يسهل الفساد ويصبح طعم الحياة مريرا.

البطولة ليست صفة استثنائية حكرًا على العظماء ولا على من تُخلّدهم كتب التاريخ، بل هي خيار يومي يتكرر في مواقف صغيرة وكبيرة، حين يقرر الإنسان أن يقف مع الحق ولا يساوم على ضميره. فقد رأينا كيف كان نجيب محفوظ راهبًا للأدب فأثمر إبداعًا خالدًا، وكيف دفع سيملفيس حياته ثمنًا لإصراره على إنقاذ الآخرين، وكيف فضح الموت كل زائف ليبقى ما هو أصيل، وكيف قاوم عباس الابتزاز بعد صمت طويل، وكيف لقّن المعلم طلابه درسًا في رفض الظلم.

إن البطولة هي أن نصون القيم حين يتخلى عنها الآخرون، وأن نرفع الصوت حين يسود الصمت، وأن نؤمن بأن مواجهة الباطل مسؤولية جماعية لا يقوم بها فرد واحد. فالمجتمع لا يُبنى بالشعارات ولا بالصمت، بل ببطولة واعية تضيء الدرب وتمنع الفساد من أن يتمدد في الظلام. وهكذا يصبح الأبطال ملح الشعوب، وبغيابهم يفقد الناس طعم الحياة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.