اللوحة: سلام عادل بريشة الفنان العراقي محمود صبري
سعاد الراعي

قبيل الزلزال.. بخطى واعية
في الصفحات التي تمثل ذروة التوتر قبل العاصفة، قبل انقلاب شباط، وقبل اعتقال سلام عادل وتعذيبه حتى الموت. هي صفحات اللحظة الأخيرة التي حاول فيها القائد أن ينقذ الحزب من نفسه قبل أن تنقضّ عليه الكلاب المسعورة.
وفي هذا المشهد، ينهض سلام عادل، لا كزعيم حزب، بل كوجدان أمة: رجلٌ يقف في وجه الانهيار، لا ليثبت موقفًا، بل ليمنح للتاريخ لحظة نقاء في زمن العهر السياسي.
في هذه الصفحات من الجزء الثاني من كتاب “سلام عادل: سيرة مناضل“، نقف عند آخر الحافات قبل السقوط العظيم، في منطقة لا تعود فيها السياسة مجرد تنظير، بل تتحوّل إلى مصير، وإلى دم، وإلى مقصلة تقف فوق عنق الحقيقة.
هنا، يدخل القارئ مع سلام عادل مرحلة الذروة المأساوية من حكايته، حيث كل التناقضات بلغت أقصاها، وكل الخيانات نضجت، وكل الأعداء كشروا عن أنيابهم.
أولًا: تحذيرات سلام عادل من السقوط الوشيك
في هذه الصفحات، يُستشَف من وثائق ومحاضر الاجتماعات والتحليلات التنظيمية، أن سلام عادل كان يدق ناقوس الخطر بشراسة الحكيم لا بذعر العاجز. فهو كان يرى كل شيء: التخاذل في التنظيم، التغلغل الرجعي، الخلل في العلاقة مع الجيش، وتواطؤ بعض الداخل مع الخصم. كان يعلم أن “الليل طويل”، ولكن كان يؤمن أن قول الحقيقة ضرورة، حتى لو كانت خنجرًا في الخاصرة.
لقد كانت رؤيته أشبه بنبوءة دامية، وكأنه كان يرى الجدران تنهار، في حين أن الكثيرين من حوله كانوا يجمّلون الشقوق أو يغضّون عنها الطرف.
ثانيًا: منظمة الحزب في الجيش: حلم السلام يُذبح من الداخل
أحد أخطر ما توثّقه هذه الصفحات هو تخريب تنظيم الحزب في القوات المسلحة، وهي النقطة التي كانت ـ بحسب رؤى سلام ـ صمّام أمان ضد أي انقلاب محتمل. لقد حاول أن يُبقي هذه المنظمة يقظة، مدرَّبة، منضبطة، لكن محاولات الكتلة الانتهازية المحمومة لتجميدها أو تفكيكها كانت بمثابة نزع السلاح من جسد الثورة، ثم تركه للذئاب. (ج2 ص 90، 100، 104، 129)
إنّه جرح سياسي لكنه يضرب عمقًا إنسانيًا هائلًا: أن يراك الرفاق تمشي إلى المذبحة ولا يمدّ أحدهم يد النجدة، لا عجزًا، بل تواطؤًا. هنا، لا تُذبح السياسة وحدها، بل تُذبح الأخوّة الثورية ببطء، بخنجرٍ حزبيّ مشحوذ.
ثالثًا: اللحظة الأخيرة: شباط الأسود
تنتهي هذه الصفحات عشية 8 شباط 1963، ذلك اليوم الذي سقط فيه القمر من سماء بغداد. وكل ما سبقه كان أشبه بعزفٍ جنائزيٍّ طويل، تديره أنامل سلام عادل، في محاولة منه لتأجيل النهاية أو لإضفاء معنى عليها.
كان يُحذّر من “الضربة”، يُطالب بحشد الجماهير، بإشعال الإضرابات، باليقظة، ولكن بدا كما لو أنه يُخاطب وطنًا فقد السمع. أُحبطت كل دعواته، تردد رفاقه، وخنق الحذر كل نداءاته الأخيرة.
لكن الغريب، والموجع، أن سلام لم يتراجع. بقي حتى النهاية في مركز الإعصار، يكتب، يخطط، يُراسل، يوجّه، وكأن اليقين بالهزيمة لا يُبرّر الهروب، بل يوجب الصمود.
رابعًا: الوجه الإنساني في لحظة الانكسار
ورغم فداحة السياسة ودمويتها، فإن صفحات هذا الفصل تكشف لنا سلام الإنسان:
- سلام الذي يكتب في الظلمة وهو يعرف أن “العيون” تراقبه.
- سلام الذي يصرّ على أن يبقى على اتصال برفاقه في التنظيمات الأدنى، لا تعاليًا بل إيمانًا بقدسية القاعدة.
- سلام الذي لا يخشى الموت، بل يخشى أن يموت الحزب قبله “هكذا كانت كلماته الأخيرة”.